(فرست عبدالرحمن مصطفى)
في رواية “طيران فوق عش الوقواق” للكاتب الأمريكي “كين كيسي” وفي ما بعد اصبحت فلماً أخرجه “ميلوش فورمان” والحائز على 5 جوائز أوسكار.
يوضح الكاتب أن المرضى الذين يبدو أنهم محبوسون قسراً داخل المصحّة لم يكونوا في الحقيقة سجناء بل كانوا متطوّعين. الخوف من الشارع ومن الفوضى ومن الحرية نفسها، جعلهم يختارون البقاء خلف الأبواب المغلقة. هناك تحت استبداد كبيرة الممرضات، كانوا يشعرون بأن حياتهم مرتّبة ومحسوبة وبلا حاجة إلى مواجهة العالم الحقيقي أو اتخاذ قرار واحد بأنفسهم.
وفي هذه المفارقة المؤلمة يمكن للمرء أن يرى انعكاساً لحال الكورد في إقليم كوردستان.
فالإقليم الذي حَلِم شعبه طويلاً بالحرية صار اليوم يشبه تلك المصحّة الكبيرة التي بناها السوفييت في الرواية. أبوابها ليست مغلقة بالمفاتيح بل بالخوف. ونزلاؤها ليسوا مجبرين على البقاء بل معتادين عليه.
إنه الخوف من «الخارج»… من مراكز القرار، من الجيران، من الفوضى ومن المجهول ومن أي شيء خارج جدران السلطة التي وُعِد الناس بأنها الملجأ الآمن. فصار كثيرون يقبلون الاستبداد الناعم، الرواتب المتأخرة بدل الانفلات، الولاء بدل المشاركة، الصمت بدل المواجهة، والبقاء داخل مؤسسة السلطة بدل المغامرة في فضاء الحرية.
وكما في المصحّة، لا يحتاج المستبد إلى قوة كبيرة حين يصبح الخوف ذاته حارساً على بوابة الناس.
تتآكل الحريات شيئاً فشيئاً، فتضعف النقابات وتتراجع الجامعة ويُهَمَّش المعلم ويُخنق الإعلام وتُخترق المؤسسات وتتحول الدولة إلى سلسلة من الغرف المغلقة.
ثم يحدث الشيء الأخطر حيث يتعوّد المواطن على ذلك، فيبدو له الاستبداد أكثر أماناً من الشارع السياسي المفتوح، وتبدو المشكلة دائماً في الخارج لا في الداخل. تماماً مثل نزلاء مصحة الرواية الذين خافوا من العالم فأحبّوا قضبانهم.
بطل الرواية، ميكمورفي، حاول أن يقود المرضى نحو الحرية. قال لهم إن الحياة خارج الجدران ممكنة وإن الإنسان خُلِق ليختار لا ليُقاد. لكنهم حين وصلوا إلى البوابة، تراجعوا. الحرية كانت واسعة جداً ومخيفة جداً ومسؤولة جداً.
وهكذا يبدو الكورد اليوم، شعبٌ بينه طاقة ثورية هائلة وتجارب نضالية ودماء وتاريخ من المقاومة، لكن هذه الطاقة محاصرة بالخوف وبشبكات السلطة التي تشبه يد “كبيرة الممرضات”، يد تبدو لطيفة لكنها لا ترتخي أبداً.
إن أخطر ما يمكن أن يحدث لأمةٍ حملت حلم الدولة لعقود طويلة هو أن تنسى معنى الحرية نفسها وأن تصبح معتادة على غرفٍ ضيقة بُنيت لها باسم الحماية.
وأخطر ما يمكن أن يحدث لسلطةٍ تدّعي تمثيل شعبٍ حر، هو أن ترضى بأن يكون الناس مرضى يخافون الشارع لا مواطنين قادرين على الخروج إلى العالم.
إن كوردستان لن تغادر المصحّة ما لم يكتشف نزلاؤها “كما حاول مورفي أن يفعل” أن الحرية ليست تهديداً وأن السلطة ليست الأم كبرى وأن الخوف ليس قدراً وأن أبواب المصحّة ليست مغلقة إلا في عقولهم.
وأن الحرية رغم ثقلها ومسؤولياتها هي الشيء الوحيد التي تُبقي الشعوب حيّة، لا مرتاحة فحسب.

