د.اسماعيل نجم الدين زنگنه
باحث قانوني
المقدمة
نظرة تحليلية في ضوء النصوص الدستورية والقرارات التفسيرية للمحكمة الاتحادية العليا
يعد تحديد موعد انتهاء ولاية مجلس النواب العراقي من المسائل الدستورية الأساسية التي تؤثر بشكل مباشر على الاستقرار السياسي والديمقراطي في العراق، وعلى مبدأ سيادة القانون وفصل السلطات. وقد شهدت هذه المسألة تطوراً ملحوظاً في الاجتهاد القضائي للمحكمة الاتحادية العليا، وصولاً إلى القرار التفسيري الأخير رقم 213/اتحادية/2025 الصادر بتاريخ 17 تشرين الثاني 2025، والذي أثار جدلاً دستورياً وقانونياً واسعاً بسبب العدول الواضح و الجلي من الآراء السابقة للمحكمة نفسها حول موضوع المقال، الى حد ينعته البعض ان هذا الامر يمكن ان يفسر بكونه اجتهاد في مورد نص صريح.
وليست هذه الورقة سوى محاولة متواضعة لدراسة وتحليل النصوص الدستورية والقانونية ذات الصلة، واستعراض التطور في الاجتهاد القضائي للمحكمة الاتحادية العليا، مع تقديم تحليل للقرار الأخير، و كل ذلك آخذين بنظر الاعتبار أن قرارات المحكمة الاتحادية العليا هي قرارات باتة و ملزمة لكافة السلطات .
أولاً: الأطر الدستورية لتحديد مدة الدورة النيابية لمجلس النواب العراقي:
-
المادة 56 من الدستور:
المادة 56/أولاً: “تكون مدة الدورة الانتخابية لمجلس النواب أربع سنوات تقويمية، تبدأ بأول جلسة له، وتنتهي بنهاية السنة الرابعة.”
هذا النص الدستوري واضح و جلي فيما يتعلق بتحديد معايير المدة النيابية لمجلس النواب؛ وهي :
المدة: أربع سنوات تقويمية (ميلادية) وليس أي نوع آخر من التقويم.
بداية الولاية: تاريخ أول جلسة لمجلس النواب (وليس تاريخ إعلان النتائج أو تاريخ الانتخابات أو تأريخ المصادقة على نتائج الانتخابات أو أي تأريخ آخر)
نهاية الولاية: نهاية السنة الرابعة (معيار زمني تقويمي واضح ومحدد)
برأينا ان النص الدستوري جاء واضحاً، ولا يحتمل أي تفسير يخرجه من معناه و مقصده.
-
المادة 64 من الدستور:
جاءت في المادة 64 من الدستور ” تنتخب مجلس النواب الجديد قبل خمسة وأربعين يوماً من تاريخ انتهاء الدورة الانتخابية لمجلس النواب السابق.”
هذا النص يلزم بإجراء الانتخابات قبل انتهاء ولاية المجلس القائم، بـ 45 يوماً على الأقل، وذلك لتحقيق الأهداف التالية:
-
ضمان عدم حدوث فراغ دستوري في السلطة التشريعية
-
إتاحة الوقت الكافي لتشكيل المجلس الجديد قبل انتهاء ولاية المجلس السابق
-
ضمان الاستمرارية المؤسسية للدولة والانتقال السلس للسلطة
-
احترام مبدأ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة
ولأن النصوص الدستورية تكمل بعضها البعض و تساند بعضها البعض، لذا يفهم من المادة 64 بأنها تفترض أن موعد انتهاء الدورة النيابية للمجلس محدد ومعلوم سلفاً وهو نهاية السنة الرابعة له قياساً بتأريخ اول جلسة للمجلس، مما يعني ذلك بأنه يجب إجراء الانتخابات قبل ذلك الموعد بـ 45 يوماً.
-
المادة 61 من الدستور:
تحدد هذه المادة صلاحيات مجلس النواب التشريعية والرقابية، والتي تشمل:
-
سن القوانين الاتحادية
-
الرقابة على أداء السلطة التنفيذية
-
انتخاب رئيس الجمهورية
-
المصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية
-
الموافقة على التعيين في المناصب العليا
-
الموافقة على إعلان الحرب وحالة الطوارئ
-
المادة 94 من الدستور:
المادة 94: “قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة.”
ومن خلال الوظيفة التي تمارسها المحكمة الاتحادية العليا والصلاحيات المنوطة بها يتبين بأنها هي التي تحمي الدستور، لذا يفترض بها ان تصر على تطبيقه على احسن وجه، و ان لاتقبل بالتأويلات التي تخرج النصوص من سياقها الدستوري.
ثانياً: التطور في الاجتهاد القضائي للمحكمة الاتحادية العليا
-
القرار رقم 29/اتحادية/2009 :
المحكمة الاتحادية العليا بينت رأيها بصدد استفسار رئيس مجلس النواب بصدد المادة 56 من الدستور، بأن: “مدة الدورة الانتخابية لمجلس النواب هي أربع سنوات تقويمية (365) يوم تبدأ من تاريخ أول جلسة له وتنتهي في اليوم الأخير من السنة التقويمية الرابعة ، اي بعد مرور 365 يوم من تأريخ أول جلسة .
-
التطبيق العملي للقرار 29/اتحادية/2009:
الدورة النيابية |
تاريخ الجلسة الأولى |
تاريخ انتهاء الولاية |
موعد إجراء الانتخابات |
الأولى |
16 /3/ 2006 |
15/3/ 2010 |
30/1/ 2010 |
الثانية |
14/6/ 2010 |
13/6/ 2013 |
30/4/ 2014 |
الثالثة |
1 /7/ 2014 |
30/6/ 2017 |
12/5/ 2018 |
الرابعة |
3 /9/ 2018 |
7/10/ 2021 |
10 /10/ 2021 (مبكرة) |
الخامسة (الحالي) |
9/1/ 2022 |
8/1/ 2026( من المنتظر ولكن القرار التفسيري الاخير للمحكمة الاتحادية غير التأريخ الى 11/11/ 2025) |
11 /11/ 2025 |
-
مناقشة الرأي التفسيري السابق (القرار 29/اتحادية/2009):
من الممكن ان يوصف هذا التفسير بأنه؛
-
واضح و محدد: يوفر تاريخاً معلوماً أو يمكن تحديده بسهولة، مما يسهل التخطيطات المسبقة للعملية الانتخابية ويمنع الارتباك بصورة كبيرة .
-
يجنب التلاعب بمواعيد الانتخابات: اذ يمنع هذا التفسير القوى السياسية من تأخير أو تقديم الانتخابات حسب مصالحها الخاصة.
-
ينسجم مع مبدأ الدورية الانتخابية: يضمن تجديد الشرعية الديمقراطية بشكل منتظم ودوري.
-
يتوافق مع النص الدستوري: حيث يحترم صراحة النص في المادة 56 التي تنص على “تنتهي بنهاية السنة التقويمية الرابعة”.
-
يتناسق مع المادة 64: يجعل من الممكن تطبيق المادة 64 التي تتطلب إجراء الانتخابات قبل 45 يوماً من موعد معلوم مسبقاً.
ويجدر الاشارة الى ان المحكمة الاتحادية العليا قد اصرت على تفسيرها هذه في قرار تفسيري لاحق تحت رقم (24/اتحادية/ 2010).
-
القرار رقم 213/اتحادية/2025 ( العدول عن الرأي التفسيري السابق)
أصدرت المحكمة الاتحادية العليا قراراً تفسيرياً بتأريخ 17 /11/ 2025 ، يمثل تحولاً جذرياً ومثيراً للجدل بين آراء مخالفة و أخرى مناصرة،
فقد قضت المحكمة بأن: “يوم الذي تجري فيه الانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب، يعد نهاية طبيعية لدورة كل من – مجلس النواب السابقة و مجلس الوزراء المنبثق عنه- وتنتهي بها شرعيتهما السياسية ، بمجرد انتخاب مجلس النواب الجديد ، وذلك تعزيزاً للشرعية الدستورية للمؤسسات المنتخبة، ولمنع احتكار السلطة أو تمديدها بغير سند دستوري ” .
أ. مضامين القرار الجديد:
تنتهي ولاية مجلس النواب يوم إجراء الانتخابات الجديدة، وليس في نهاية السنة التقويمية الرابعة (مثلما ذهب اليه الرأي السابق)، وذهبت المحكمة برأيها هذه بأن ولاية المجلس تنتهي فعلياً بمجرد ذهاب المواطنين إلى صناديق الاقتراع و بذلك يتوقف المجلس فوراً عن ممارسة صلاحياته التشريعية والرقابية يوم الانتخابات، وتتحول الحكومة إلى حكومة تصريف أعمال بصلاحيات محدودة.
ثالثاً: مناقشة القرار 213/اتحادية/2025 :
يمكن ان ينعت القرار رقم 213/اتحادية/2025 برأينا المتواضع بأنه أتى بتفسير لاينسجم و التفسير الضيق و كذلك مع التفسير الواسع للنص محل التفسير، وانه قد حمل النص اكثر مما يتحمله، فضلاً عن ذلك فإن القرار لم يقدم مبرراته لإتخاذ هذا المسلك الجديد وعدوله عن المسلك المستقر في القضاء الدستوري العراقي.
-
المديات الدستورية للقرار:
برأينا القرار محل الدراسة لاينسجم مع الدستور، و مديات ذلك الامر تتمثل في :
أ. تعديل نص دستوري بنص آخر مخالف له:
ما نص عليه الدستور (المادة 56) |
ما قضى به القرار 213/اتحادية/2025 |
“تنتهي بنهاية السنة التقويمية الرابعة” |
“تنتهي يوم الاقتراع العام” |
(معيار زمني تقويمي معلوم ) |
(معيار سياسي معرض للتغيير) |
موعد محدد أو يمكن تحديده مسبقاً |
موعد متغير يعتمد على قرار سياسي |
لا علاقة له بموعد الانتخابات |
مرتبط كلياً بموعد الانتخابات |
اذن مديات هذا التفسير الجديد قد يؤدي ضمناً الى دفع القوى السياسية الفاعلة في الساحة الى عرقلة سير الانتخابات في موعدها بطرق مختلفة ، بصورة قد تلجأ الى تمديد عمر المجلس المنتهية ولايته، لحين اجراء الانتخابات، وهذا يؤثر سلباً بطبيعة الحال على المسيرة الديمقراطية و عملية التداول السلمي للسلطة.
ب. الابتعاد عن عبارات النص الدستوري:
النص الدستوري في المادة 56 واضح تماماً: “تنتهي بنهاية السنة التقويمية الرابعة”. هذه العبارة؛ واضحة لغوياً ولا تحتمل التأويل ، ويمكن تحديده زمنياً ، كما لا تذكر الانتخابات مطلقاً كمعيار لانتهاء الولاية، بل تستخدم معياراً تقويمياً (السنة التقويمية) وليس سياسياً.
فالقرار الجديد يبتعد عن هذا النص الصريح كلياً ويستبدله بمعيار لم يرد في الدستور أصلاً (يوم الاقتراع).
ج. يتقاطع مع المادة 64 من الدستور:
المادة 64 تنص على: “ينتخب مجلس النواب الجديد قبل خمسة وأربعين يوماً من تاريخ انتهاء الدورة الانتخابية لمجلس النواب السابق.” فهذا النص يفترض أن موعد انتهاء الدورة الانتخابية:
-
معلوم مسبقاً: حتى يمكن احتساب 45 يوماً قبله
-
محدد بشكل مستقل عن الانتخابات: لأن الانتخابات يجب أن تجرى “قبل” انتهاء الولاية
-
ثابت: لا يتغير بتغير موعد الانتخابات
إذا كانت الولاية تنتهي يوم الانتخابات (كما يقول القرار 213)، فكيف يمكن إجراء الانتخابات قبل 45 يوماً من انتهاء الولاية؟ هذا تناقض منطقي واضح.
التناقض المنطقي:
القرار 213 يقول: الولاية تنتهي يوم الانتخابات
المادة 64 تقول: الانتخابات قبل 45 يوماً من انتهاء الولاية
النتيجة: تناقض منطقي واضح يجعل تطبيق المادة 64 مستحيلأً.
د. تفسير ام تعديل؟ :
وفقاً للمادة 93 من الدستور، تختص المحكمة الاتحادية العليا بـ “تفسير نصوص الدستور”. والتفسير في الفقه الدستوري يعني:
-
توضيح النص الغامض: عندما يكون النص غير واضح أو يحتمل أكثر من معنى
-
الكشف عن إرادة المشرع الدستوري: من خلال سياق النص ومقاصده
-
التوفيق بين النصوص المتعارضة ظاهرياً: لتحقيق الانسجام الدستوري
لكن التفسير لا يجوز أن يتجاوز إلى:
-
تعديل النص الواضح
-
استبدال النص بنص آخر
-
إلغاء حكم دستوري صريح
-
إضافة أحكام جديدة لم ينص عليها الدستور
هـ. القاعدة الأصولية: القائلة “لا اجتهاد في مورد النص”:
القاعدة الأصولية والقانونية الراسخة تقول بأنه “لا اجتهاد مع وضوح النص”، فرأي المحكمة الاخير جانب هذه القاعدة بصورة واضحة، اذ انها اجتهدت في مورد نظمه نصوص دستورية واضحة و صريحة مثلما سبقنا بالاشارة اليه.
وفي الختام، يجدر الاشارة الى انه تم اصدار استيضاح باسم المحكمة وبتوقيع من رئيسها بتأريخ 25/11/ 2025، حيث اكدت فيه المحكمة ثباتها على رأيها الوارد في قرارها التفسيري ذي الرقم (213/ اتحادي/2025)، وخاصةً تحديد يوم الاقتراع العام موعداً لانتهاء مدة الدورة الانتخابية الخامسة لمجلس النواب، ومع ذلك فإن الاستيضاح جاء باضافة تفيد باستمرارية رئاسة مجلس النواب في إدارة عمل المجلس من الناحية الادارية والمالية لحين انعقاد المجلس الجديد، وذلك وفقاً للنظام الداخلي للمجلس و وفق الاصول و احكام القانون.
ونرى في نص الاستيضاح بأنه :
1.يمكن ان يفسر ما ذهبت اليه المحكمة في استيضاحها، بأنها قد تراجعت و لو بصورة جزئية عن قرارها التفسيرى الاخير المتعلق بانتهاء مدة الدورة الانتخابية الخامسة لمجلس النواب على الرغم من انها تؤكد ثباتها على موقفها، إذ ان الانتهاء تقتضي رفع يد رئاسة المجلس و اعضائها عن ادارة شؤون المجلس بصورة مباشرة، لا أن تستمر في اعمالها، و تصرف الرواتب للنواب (السابقين) و يتقاضوا اجور و مبالغ أخرى دون وجه حق.
-
قد جاءت في المادة (69) من قانون مجلس النواب و تشكيلاته رقم (13) لسنة 2018 ( في حالة حل المجلس أو انتهاء مدته تستمر تشكيلات المجلس في ممارسة مهامها لتيسير الاعمال العادية وفقاً للصلاحيات الممنوحة لها دون ان يكون لها حق توظيف أو ترقية أو عزل اي موظف). يستفاد من هذا النص بأنه في حال انتهاء مدة المجلس ( الدورة الخامسة منتهية وفق تفسير المحكمة الاتحادية سالف الذكر)، تنتهي اعمال الدورة ، ولكن تستمر تشكيلات المجلس بتسيير الاعمال العادية، و بالرجوع الى تعريف مصطلح ( تشكيلات المجلس) في نفس القانون (م1/ثامناً)، يظهر لنا بانها تشمل ( مكتب الرئيس ومكتبا نائبيه و الامانة العامة للمجلس ومكاتب المستشارين)، مما يعني ذلك ان الرئيس و نائبيه و النواب قد انتهى دورهم من تأريخ 11/ 11/ 2025، ولايمكن ان يمارسوا دور النيابة أو أي دور آخر بعد ذلك التأريخ.

