كتابة : د. إسماعيل نجم الدين زنكنة
ترجمة:نرمين عثمان محمد / عن صحيفة كوردستاني نوى
“لقد تألفت جمهورية لن يحدث الانفصال بين مكوّناتها ، كما أن وحداتها لا تتفكك”
المؤرخ الأمريكي:
أندرو كيننغهام ماكلولين (1861–1947)
الفيدرالية ليست مجرد نظامٍ دستوري أو آلية تنظيمٍ مؤسسي للحكومات، بل ينبغي أن تكون انتقالاً إلى ثقافةٍ اجتماعية وفكرية، تقوم أسسها على احترام التنوّع، وتقاسم السلطة، والتعاون بين المستويات المختلفة للحكم المؤسسي.
هذه الثقافة الفيدرالية تُطبَّق بطرائق متباينة في الدول الناجحة في العالم مثل الولايات المتحدة، وسويسرا، والنمسا، وكندا، وألمانيا، لكنها جميعًا تشترك في قاعدةٍ واحدة، وهي احترام التنوّع وصيانته داخل إطار الوحدة.
تعني الثقافة الفيدرالية الإيمان بأن السلطة لا ينبغي أن تتركّز في مركزٍ واحد، بل يجب توزيعها بعدالة بين الحكومة الفيدرالية والوحدات المُكوِّنة لها (كالولايات أو الكانتونات أو الأقاليم). ويستند هذا التصوّر، في جوهره، إلى عددٍ من المبادئ الأساسية:
أولاً: مبدأ التعاون والمساندة
ومعناه أن كل مهمة يمكن إنجازها على مستوى أدنى، لا داعي لإحالتها إلى مستوى أعلى، و ربما تُعد التجربة السويسرية مثالاً بارزًا على تطبيق هذا المبدأ، إذ تتمتع البلديات بسلطاتٍ واسعة في إدارة شؤونها، ثم تأتي الكانتونات، وأخيرًا الحكومة الفيدرالية.
ثانيًا: مبدأ احترام التنوّع
الثقافة الفيدرالية تعني الإقرار بإمكانية عيش مجتمعٍ متعدّد اللغات، ومتنوّع الثقافات، ومتعدّد الأديان والمذاهب، ضمن إطارٍ وحدوي،وتُعد سويسرا مرة أخرى مثالاً واضحًا، إذ تضم أربع لغات رسمية (الألمانية، والفرنسية، والإيطالية، والرومانية) و26 كانتونًا مختلفًا، ومع ذلك تعيش جميعها بسلامٍ تحت مظلةٍ مشتركة.
ثالثًا: مبدأ التعاون والحوار
الفيدراليةتعني ثقافة التفاهم والاتفاق، لا فرض القرارات من قِبل المكوّن الفيدرالي على بقية المكوّنات، فعلى سبيل المثال، في النمسا، ورغم الطابع المركزي النسبي للنظام، فإن المجلس الفيدرالي يؤدي دورًا مهمًا في التعاون والحوار مع الحكومة الفيدرالية.
أول دولة أرست النظام الفيدرالي المكتوب
ليس خافيًا أن الولايات المتحدة كانت أول دولة تُرسّخ النظام الفيدرالي بشكلٍ مكتوب،إذ كُتب دستورها عام 1787 بتأثير مجموعةٍ من المفكرين الذين عُرفوا بـ«الآباء المؤسسين». وفي «الأوراق الفيدرالية»، عرض هؤلاء المفكرون آراءهم بشأن أهمية توزيع السلطة.
وعليه، فإن الثقافة الفيدرالية تعني الإيمان بأن التنوّع مصدرُ قوةٍ لا ضعف، والإقرار بإمكانية عيش مجتمعٍ متعدّد اللغات والثقافات والأديان والمذاهب بسلام، متى ما جرى توزيع السلطة توزيعًا عادلاً، على أن تُراعى المسؤولية في جميع المستويات.
في الدول الناجحة مثل سويسرا، والولايات المتحدة، وكندا، أصبحت الفيدرالية جزءًا من الثقافة الاجتماعية ونمط حياة الناس، إذ تعلّم المواطنون العيش عبر الحوار والاتفاق، واحترام اختلافاتهم، مع الحفاظ في الوقت نفسه على وحدتهم.
أما في العراق، فقد جرى تطبيق الفيدرالية من دون أن تكون مطلبًا شعبيًا واسعًا أو خيارًا أغلبيًا، مما جعلها مصدرًا دائمًا للتجاذب والصراع بين الحكومة الفيدرالية وإقليم كردستان.
الحاجة إلى ترسيخ الثقافة الفيدرالية مجتمعيًا
تُعلّمنا هذه التجربة أن ترسيخ الفيدرالية في العراق يحتاج إلى وقتٍ وجهدٍ أكبر، ويتطلب عملاًجادًا على تنمية الثقافة الفيدرالية على المستوى المجتمعي، عبر إدماج قيمها ومبادئها في المناهج التعليمية، وفي أنشطة مؤسسات المجتمع العراقي عمومًا، وفي إقليم كردستان على وجه الخصوص.
فالفيدراليةكما أشرنا إليها ليست مجرد نظامٍ دستوري أو إطارٍ سياسي جامد، بل ينبغي أن تتحول إلى ثقافةٍ اجتماعية وسياسية وفكرية، ويتضح هذا الطرح من تجربة الولايات المتحدة نفسها، إذ لم تُبنَ الفيدرالية هناك على ثقافةٍ جاهزة سابقة، بل تطورت تلك الثقافة بعد إقرار الدستور، رغم ما شهده ذلك الزمن من جدلٍ فكري عميق بين القانونيين والقضاة والسياسيين، حيث وُجد تيارٌ واسع من المشككين والمنتقدين للنظام، إلى جانب تيارٍ آخر من المنظّرين والمدافعين عنها والذين لم يكونوا فئة قليلة.
الفيدرالية في العراق لم يكن خيار توافقي عام
لم تكن الفيدرالية في العراق، سواء في عام 2004 أو 2005، خيارًا عامًا متوافقًا عليه أو مطلبًا شعبيًا واسعًا، وأصبح الإعتراف والموافقة خياران كرديان لا مفر منهما ، ويُقال إن الولايات المتحدة نفسها لم تكن متحمسة لهذا الشكل من الفيدرالية، كما أن العرب السنّة والشيعة كانوا متخوّفين منها، في حين قبلها الأكرادفقط بترحيب،لذلك خرجت الفيدرالية العراقية بصيغةٍ خاصة ومختلفة، والتي يمكن تلخيص أبرز سماتها بما يأتي:
-
فيدرالية غير متوازنة:
نشأت الفيدرالية العراقية غير متوازنة منذ البداية، إذ وُجد إقليمٌ فيدرالي واحد فقط (إقليم كردستان) داخل دولةٍ ذات طابع مركزي، ورغم أن الدستور أتاح للمحافظات الأخرى التحول إلى أقاليم، فإن السلطة المركزية وإنطلاقاً من مبدأعدم الثقة بالفيدرالية حال دون ذلك.
-
إشكالية غموض الحدود:
لم تُحدَّد بوضوح حدود إقليم كردستان مع بقية مناطق العراق، وبقيت مساحة واسعة تُعرف بـ«المناطق المتنازع عليها»، حيث يدّعي كل طرف تبعيتها له، ولا سيما مدينة كركوك.
-
إشكالية النفط والغاز:
عجز الدستور عن تحديد الجهة المخوّلة بإدارة ثروات النفط والغازبوضوح ، هل هي الحكومة الفيدرالية أم حكومة الإقليم؟ وقد أصبح هذا الغموض أحد أكبر أسباب الخلاف بين أربيل وبغداد، رغم أن قرارات المحكمة الاتحادية العليا دفعت هذه المسألة جزئيًا نحو المركز.
-
غياب الثقافة الفيدرالية:
يملك العراق تاريخًا طويلاًمن المركزية الشديدة، وقد شكّل دستور 2005 انعطافة حادة في المجتمع العراقي، إذ نقل البلاد من نظامٍ مركزي صارم يأخذ القرار لوحده إلى دولةٍ فيدرالية وجمهورية برلمانية، وفي المقابل أدخل إقليمًا شبه مستقل ضمن دولة تُوصَف بأنها فيدرالية.
وعليه، فإن الفيدرالية في العراق تُعدّ تجربة غير مستقرة، ويمكن إرجاع ذلك إلى عدة أسباب:
– غياب التوافق:
كُتب الدستور وأُقِرّ على عَجَل، ولم يكن بالإمكان التوصل إلى توافق حقيقي بين الأطراف الرئيسة بشأنه. وكما هو معلوم، فإن غالبية العرب السنّة صوّتوا ضد الدستور في استفتاء إقرار الفيدرالية أو قاطعوه.
– الثغرات الدستورية:
تُركت العديد من القضايا الجوهرية عمداً غامضة وناقصة، أو أُجّلت إلى المستقبل. وهذه الثغرات لا تقتصر على مجال واحد فحسب، بل تشمل معظم المجالات السياسية والمالية والإدارية والاقتصادية وحتى الاجتماعية.
– الإرث التاريخي:
عاش الكرد قرناً كاملاً تحت الظلم والاضطهاد، ولا سيما في عهد صدام حسين، حيث تعرّضوا لهجمات لا إنسانية. وقد أورث هذا الماضي المرير المكوّن الكردي فقدان الثقة بالسلطة المركزية، ودفعه إلى التعامل باستمرار مع الحكومة الفيدرالية بشيء من الشك والحذر.
الدستور يحافظ على الأساس السياسي للفيدرالية


