لم تكن كركوك يوما مجرد مدينة عابرة في المشهد الثقافي والفني ، بل شكلت عبر عقود طويلة حاضنة حقيقية للفن والموسيقى، وملتقى للأصوات والإيقاعات التي عبرت بصدق عن التنوع والعمق الحضاري للمدينة.
وقد كان للفنانين الكورد القدامى في كركوك دور محوري وريادي في بناء هذا المشهد الفني، إذ أسهموا بجهودهم المتواصلة في ترسيخ هوية فنية أصيلة، وحفظ تراث الأغنية والموسيقى الكوردية من الاندثار.
وعلى امتداد الستینیات و السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات القرن الماضي، شهدت الساحة الفنية في كركوك نشاطا لافتا، تألق خلاله المطربون والعازفون الكورد رغم الظروف الصعبة والقيود المشددة التي فرضها النظام البعثي السابق على العمل الثقافي والفني. وبرغم الرقابة والتضييق، واصل هؤلاء الفنانون رسالتهم بإصرار، مقدمين أعمالًا حملت في مضامينها الوجدان الشعبي، ومعبرة عن الهوية الكوردية بروح فنية عالية.
ولم يقتصر هذا الحراك على الأصوات الغنائية فحسب، بل كان للعازفين دور لا يقل أهمية، إذ شكّلوا العمود الفقري للعروض الموسيقية، وأسهموا في تطوير الأداء وإغنائه بالإيقاعات والألحان التي منحت الأغنية الكوردية طابعها المميز.
وفي هذا السیاق ، يؤكد الفنان الكركوكي المخضرم رمضان زامدار أن العلاقة بين المطرب والعازف في كركوك كانت علاقة تكامل حقيقي، أسست لتجربة موسيقية متكاملة، وجعلت من العروض الفنية جسورًا متناغمة بين الصوت والكلمة والآلة الموسيقية.
ويشير زامدار إلى أن عددًا كبيرًا من العازفين الرواد وقفوا إلى جانب المطربين وأسهموا في إنجاح حفلاتهم ومهرجاناتهم، ومن بينهم شوكت رشيد، قادر مردان، عبد الإله محيي الدين، قنبر قرداش، نوفَر محيي الدين، نور الدين جاف، خالد جوانرو، سيروان عمر، آراس رفعت، نريمان گوران، وغيرهم، ممن تركوا بصمة واضحة من خلال تقديمهم عروضا موسيقية متكاملة اتسمت بالاحتراف والتجديد، دون التفريط بالأصالة.
كما برز في تلك المرحلة عدد كبير من المطربين الذين خلدوا أسماءهم في ذاكرة كركوك الفنية، وتركوا أثرًا لا يمحى في وجدان الجمهور، من بينهم صلاح داوده، شكور خياط، حسين علي، مقداد محمد عمر ، عباس محمد ، عومەرە درێژ ، علي عزيز، عادل محمد سليمان، حمه رؤوف كركوكي، علي زنگنه، حسن غريب، مصطفى رؤوف، ناظم عمر، صديق شيدا، برهان جباري، فتاح رزايي، سيروان عمر، وغيرهم من الرواد الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية تطوير الأغنية الكوردية والحفاظ على أسسها الفنية الأصيلة.
وتتجاوز أهمية هؤلاء الفنانين حدود الأداء الفني، إذ شكّلوا بحضورهم وأعمالهم جسرًا ثقافيًا بين الأجيال، وأسهموا في نقل التجربة الموسيقية الكوردية من جيل إلى آخر، محافظين على روحها وعمقها الإنساني. فقد كانت أعمالهم بمثابة سجل حي لذاكرة المدينة، عبرت عن أفراحها وأحزانها، وعن تاريخها الاجتماعي والثقافي الغني.
واليوم، ومع تسارع الإيقاع الثقافي وتغيّر أدوات التعبير الفني، تبرز الحاجة الملحة إلى توثيق تجارب هؤلاء الفنانين الرواد، والالتفات إلى إرثهم بوصفه جزءًا أصيلًا من الذاكرة الجماعية لكركوك، ليس فقط داخل المجتمع الكوردي، بل في المشهد الثقافي العراقي عمومًا. فهؤلاء الفنانون لم يكونوا مجرد مؤدين، بل كانوا حرّاسًا للهوية، وصنّاع ذاكرة، وأمناء على تراث فني سيبقى حيًا ما دامت كركوك تنبض بالحياة والفن.
يبقى أن نؤكد أن الفنان الرائد رمضان زامدار يعد أحد مؤسسي فرقة سولاف الموسيقية، وهو شاعر كوردي معاصر صدر له ديوان شعري مطبوع ، وقد أفاد عدد من مطربي كركوك الكورد من قصائده التي لحنوا بعضها وغنوها في أعمالهم الفنية، فضلاً عن كونه كان صاحب استوديو ( رمضان – پارك ) الكائن في شارع الجمهورية بمدينة النار الأزلية – كركوك .