بقلم: عباس عبدالرزاق
قراءة ثقافية في الاقتصاد، الحروب، الذكاء الاصطناعي، ونبوءة الخوف المعاصر
القسم الأول
ملخص افتتاحي
يتناول هذا الملف الثقافي عام 2026 بوصفه لحظة توتّر تاريخية تتقاطع فيها أزمات الاقتصاد العالمي، وتصاعد الحروب، وتسارع الذكاء الاصطناعي، مع تآكل المعنى في نظام عالمي تحكمه الكفاءة دون حكمة. ومن خلال قراءة رمزية لنبوءة نوسترداموس، لا بوصفها تنبؤًا غيبيًا بل مرآة ثقافية للخوف الإنساني، يسعى الملف إلى مساءلة الحاضر وفهم هشاشة الأنظمة المعاصرة، وطرح سؤال جوهري: هل ما زال العالم قادرًا على إعادة التفكير في مساره قبل أن يتحقق السقوط في لمح البصر؟
«مدينة من حديد ونار»: نوسترداموس بوصفه استعارة تاريخية
حين كتب نوسترداموس عن «مدينة من حديد ونار تنهار في لمح البصر»، لم يكن يقدّم وصفًا جغرافيًا لمكان بعينه، بقدر ما كان يصوغ صورة رمزية مكثفة للأنظمة التي تبلغ ذروة قوتها التقنية والعسكرية قبل أن تكتشف هشاشتها الداخلية. فالحديد يحيل إلى الصلابة الصناعية والعسكرة والتنظيم الصارم، فيما تشير النار إلى الطاقة والمال والعنف الكامن في بنية السلطة. إنها مدينة فائقة الانضباط، لكنها بلا روح، ويكمن خطرها في أن سقوطها يكون سريعًا بقدر صلابتها.
في القراءة الثقافية المعاصرة، لا تعود هذه «المدينة» كيانًا مكانيًا محددًا، بل تتحول إلى تمثيل رمزي للنظام العالمي الحديث: شبكة معقدة من الأسواق المالية، والمجمّعات العسكرية–الصناعية، والبنى الرقمية، ومراكز القرار العابرة للحدود. هذا النظام يبدو متماسكًا من الخارج، لكنه يقوم في جوهره على عنصر بالغ الهشاشة: الثقة. وحين تتآكل هذه الثقة، لا يحتاج النظام إلى سنوات كي ينهار، بل إلى لحظة واحدة.
من هذا المنظور، لا تُقرأ نبوءة نوسترداموس كتنبؤ زمني أو وعد غيبي، بل كحدس تاريخي يتكرر عبر العصور. فالتاريخ، كما أشار ابن خلدون ثم فلاسفة الحداثة، لا يسير في خط مستقيم، بل عبر دورات من الصعود والانهيار. وكل نظام يبلغ أقصى تمدده دون أن يحافظ على توازنه الأخلاقي والمعرفي، يزرع بذور فنائه في داخله.
إن استدعاء نوسترداموس في سياق الحديث عن عام 2026 لا يعني الإيمان بالحتميات، بل استخدام نص رمزي قديم لفهم قلق إنساني معاصر: الخوف من أنظمة صنعها الإنسان بنفسه، ثم فقد السيطرة عليها.
القسم الثاني ما بعد كورونا:
اقتصاد يعيش على تأجيل الانهيار
لم تكن جائحة كورونا أزمة صحية عابرة، بل شكّلت اختبارًا جذريًا للبنية الاقتصادية العالمية. فقد كشفت الجائحة أن النظام الاقتصادي السائد لا يقوم على الاستقرار الحقيقي، بل على إدارة الأزمات عبر التأجيل. ضُخّت سيولة غير مسبوقة، أُنقذت المؤسسات الكبرى، وعُلّقت قواعد السوق، لا بهدف إصلاح الخلل البنيوي، بل لمنع الانهيار الفوري.
يرى اقتصاديون معاصرون، من بينهم جوزيف ستيغليتز، أن ما حدث بعد كورونا لم يكن تعافيًا فعليًا، بل ترحيلًا للأزمة إلى المستقبل. فقد تضخمت الديون السيادية، وارتفعت معدلات التضخم، وتآكلت القدرة الشرائية للطبقات الوسطى، فيما ازداد تركّز الثروة في أيدي قلة محدودة. وهكذا اتسعت الفجوة بين الاقتصاد المالي القائم على المضاربات والأرقام، والاقتصاد الحقيقي القائم على العمل والإنتاج.
مع الاقتراب من عام 2026، تبدأ آثار هذا الترحيل بالظهور بوضوح. فالاقتصادات التي تعيش على الدَّين لا يمكنها الاستمرار إلى ما لا نهاية، والثقة التي تُمنح للنظام المالي ليست مطلقة. ومع كل أزمة جديدة، تتآكل هذه الثقة تدريجيًا، ويقترب النظام من نقطة الانكسار.
في هذا السياق، يصبح «السقوط في لمح البصر» توصيفًا دقيقًا لانهيار محتمل لا يبدأ من الفقر، بل من فقدان الإيمان بالنظام ذاته. فحين تفقد المجتمعات ثقتها بالمال، لا يعود للبورصة أو للعملة أو للمؤسسات النقدية معنى مستقر، ويغدو الانهيار حدثًا نفسيًا بقدر ما هو اقتصادي.
القسم الثالث الذكاء الاصطناعي:سلطة بلا مساءلة
يُقدَّم الذكاء الاصطناعي اليوم بوصفه الحل التقني الأمثل لمشكلات الاقتصاد والإدارة، غير أن هذا الخطاب يخفي سؤالًا جوهريًا: من يملك القرار؟ ومع انتقال جزء متزايد من القرارات الاقتصادية والعسكرية إلى الخوارزميات، يتراجع الدور الإنساني في المساءلة والتقييم الأخلاقي.
يحذّر مفكرون مثل يوفال نوح هراري من أن الذكاء الاصطناعي لا يهدد سوق العمل فحسب، بل يهدد مفهوم المسؤولية ذاته. فالخوارزمية لا تشعر بعواقب قراراتها، ولا تتحمل تبعاتها الأخلاقية، لكنها قادرة على التأثير في مصائر الملايين خلال ثوانٍ.
اقتصاديًا، يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تسريع التداول المالي، وتعميق اقتصاد المضاربات، وإلغاء وظائف واسعة، ما يزيد من هشاشة المجتمعات. وبحلول 2026، يُتوقع أن تصبح الأسواق أكثر سرعة، لكنها أقل قدرة على الفهم الذاتي. وهذا التناقض بين السرعة والفهم هو أحد أخطر ملامح النظام الاقتصادي المعاصر.
في هذا الإطار، لا يكون الذكاء الاصطناعي سبب الانهيار، بل عامله المسرِّع. فهو يعمل داخل نظام يعاني أصلًا من اختلالات بنيوية، ويضاعف آثارها بدل أن يعالجها.
القسم الرابع نظام التفاهة: إدارة العالم بلا معنى
يقدّم الفيلسوف الكندي آلان دونو مفهوم «نظام التفاهة» بوصفه توصيفًا دقيقًا لعالم تُدار فيه المؤسسات الكبرى وفق منطق الكفاءة الشكلية لا الحكمة. في هذا النظام، لا يُكافأ التفكير النقدي، بل الامتثال، ولا تُقدَّم الرؤية بعيدة المدى، بل الحلول السريعة القابلة للتسويق.
تكمن خطورة هذا النظام في أنه لا يبدو فاسدًا أو فوضويًا، بل منظمًا وفعّالًا. غير أن فعاليته تكمن في إعادة إنتاج الأخطاء ذاتها. وحين يلتقي نظام التفاهة بالذكاء الاصطناعي، تصبح القرارات أسرع، لكنها أكثر فراغًا من المعنى.
في عالم كهذا، لا يُسأل: هل القرار عادل أو إنساني؟ بل: هل هو مربح؟ هل ينسجم مع المؤشرات؟ وهكذا تتحول القوة الاقتصادية والتكنولوجية إلى قوة عمياء، قادرة على البناء والهدم بالقدر نفسه.
القسم الخامس الحروب المعاصرة: العنف بوصفه جزءًا من الاقتصاد
لم تعد الحروب الحديثة تُخاض فقط بالجيوش النظامية، بل بالاقتصاد والطاقة والمعلومات. نحن أمام حروب هجينة لا تعلن بدايتها ولا نهايتها، صراعات بالوكالة، سباق تسلّح، وتراجع خطير للقانون الدولي.
وقد عادت إلى الواجهة الأسلحة المحرّمة، بما فيها الأسلحة الكيميائية، إلى جانب الإرهاب العابر للحدود. هذه الحروب لا تدمّر الدول وحدها، بل تزعزع الاقتصاد العالمي عبر تعطيل سلاسل التوريد، ورفع أسعار الغذاء والطاقة، ودفع ملايين البشر نحو الفقر والهجرة.
القسم السادس الإرهاب: لغة اليائس في عالم بلا عدالة
من منظور ثقافي واجتماعي، لا يمكن فهم الإرهاب بوصفه ظاهرة مستقلة، بل كعرض لانهيار العدالة الاجتماعية وفقدان المعنى. حين تفشل الدولة والنظام العالمي في توفير الأمان والكرامة، يتحول العنف إلى لغة بديلة، ويغدو الإرهاب تعبيرًا عن انسداد الأفق أكثر مما هو فعلًا أيديولوجيًا خالصًا.
القسم السابع 2026: سؤال مفتوح لا نبوءة مغلقة
لا يقدّم هذا الملف عام 2026 بوصفه موعدًا لنهاية العالم، بل كنقطة توتّر تاريخية. لحظة تتقاطع فيها أزمات مؤجلة، وتقنيات غير مضبوطة، ونظام عالمي مأزوم.
السؤال المركزي ليس: هل سينهار العالم؟
بل: هل ما زال قادرًا على إعادة التفكير في مساره قبل أن يتحقق السقوط… في لمح البصر؟
هذا الملف قراءة ثقافية–نقدية، لا ادعاء تنبؤ أو جزم زمني، ويهدف إلى مساءلة الحاضر عبر رموزه التاريخية والفكرية
قائمة المراجع
1. Arendt, H. (1970). On Violence. Harcourt.
2. Bauman, Z. (2000). Liquid Modernity. Polity Press.3. Duno, A. (2018). The System of Triviality: Power and Administration in Modern Societies. Toronto University Press.4. Herari, Y. N. (2018). 21 Lessons for the 21st Century (G. B. Smith, Trans.). Spiegel & Grau.5. Nostradamus, M. (1555). Les Prophéties (Translated and annotated by 6. Stiglitz, J. E. (2010). Freefall: America, Free Markets, and the Sinking of the World Economy. W. W. Norton & Company.7. World Bank. (2021). The Global Economic Impact of COVID-19. Washington, DC: World Bank.8. United Nations. (2020). Global Report on Conflicts, Displacement, and Human Security. New York: United Nations.
-
مقالات أكاديمية:
المراجع
-
نوسترداموس، ميشيل. الرباعيات،
-
ستيغليتز، جوزيف. الأسواق الحرة والخوف من الاقتصاد العالمي: نقد الرأسمالية المعاصرة.
-
هراري، يوفال نوح. 21 درسا للقرن الحادي والعشرين. ترجمة:
-
دونو، آلان. نظام التفاهة: السلطة والإدارة في المجتمعات الحديثة. 5.باومان، زيغمونت. الحداثة السائلة. ترجمة:
-
آرنت، هانا. العنف والسلطة.
-
تقرير البنك الدولي / صندوق النقد الدولي حول آثار جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي،
-
تقرير الأمم المتحدة حول الحروب والهجرة والنزاعات المعاصرة،
-
مقالات أكاديمية:

