بارزان الشيخ عثمان
في اليوم الثالث من شهر اكتوبر الجاري تمر خمسة اعوام على رحيل الرئيس مام جلال، ولذلك فقد الشعب العراقي بكافة اطيافه ومشاربه رئيس بلادهم الذي هو بمثابة ابٍ عادل كان قد وقف على مسافة واحدة من جميع ابناء شعبه وقواه السياسية، وفقد العراق برحيله رفعته وجلاله الذي كان قد عاد تواً الى احضان العالم العربي والدولي.
الرئيس مام جلال لم يكن متلهفاً أو تواقاً الى المنصب، بل ان كرسي رئاسة الجمهورية هو من جهز نفسه ليشغله الرئيس مام جلال؛ أي أن الكرسي ترجى منه ذلك؛ لأن سيادته قبل ان يكون رئيساً للجمهورية، كان ذا مكانة رفيعة عند الشعب العراقي وشعوب المنطقة وقادة الاحزاب العراقية والعالم ايضاً، وكان رمزا بارزاً في النضال من اجل الديمقراطية ومقارعة الدكتاتورية، وكان يستشيره كل قادة العراق وحتى قادة المنطقة ويستفيدون من تجاربه الكثيرة.
في احد الايام التقى جمعٌ من ساسة العراق بالرئيس السوري المغفور له حافظ الاسد في دمشق ليسألوه عن بعض الامور وأجابهم أنتم محظوظون عندكم قائد مثل الطالباني اذهبوا عنده و هو ادرى منا جميعاً.
عندما أنتُخِبَ رئيساً للجمهورية من خلال تصويت اعضاء الجمعية الوطنية العراقية وكان اول برلمان عراقي منتخب ديمقراطياً من قبل الشعب، تعهد الرئيس مام جلال بأن” يسير قدماً على طريق التقدم والازدهار في مجالات الحياة المختلفة لكي ينعم الشعب العراقي بالعيش الكريم الآمن اللائق بانسان هذا العصر، وتعزيز الوحدة الوطنية العراقية، والعمل من أجل عودة العراق الى مكانته الاصلية “.
نعم كان الرئيس مام جلال صادقاً واميناً ووفياً بعهده خلال الفترتين لولايته في رئاسة الجمهورية، وعمل جاهداً من اجل تحقيق الاهداف التي علق عليها الشعب العراقي بكافة مكوناته آماله. وأثبت الرئيس طالباني أنه رئيس جميع العراقيين والعراقيات دون تمييز وصادقٌ مع حلفه باليمين وأدى مهامه بتفانٍ وإخلاص حافظ على استقلال العراق وسيادته، ورعى مصالح شعبه وسمائه ومياهه وثرواته ونظامه الديمقراطي الاتحادي، ثم عمل جاهدًا على صيانة الحريات العامة والفردية واستقلال القضاء.
كانت مهمة الرئيس مام جلال في تلك الحقبة صعبة للغاية والطريق لم تكن معبدة بالزهور؛ لأن النظام البائد قد ترك وراءه بلداً مدمرًا وشعباً ممزقاً، لكن الرئيس طالباني بحكمته و خبرته العميقة حمل على كاهله كل هذه المسؤوليات من اعادة اعمار ما خربته الدكتاتورية وتوحيد الطاقات العراقية نفسها في لملمة الشعب وفي بناء العراق من جديد على أسس التعايش السلمي والوئام، ومجابهة النعرات والنزعات الشوفينية العنصرية والتناحرات الطائفية وتغليب مصالح الشعب فوق كل الاعتبارات والانتماءات الفئوية والحزبية. وأصبح منزل الرئيس مام جلال ومكتبه في بغداد وقه لا چوالان و دباشان ودوكان وحتى اربيل وكركوك، ثم قصر السلام مركز القرارات المهمة والاتفاقيات الناجعة لادارة الدولة وضمان مستقبل زاهر للعراق وشعبه، واصبحت تلك الأماكن نبراساً للسلام والوئام ليستنير بنوره الشعب والوطن، لذلك منحه اية الله العظمى السيد علي السيستاني (دام ظله) صفة ولقب (صمام أمان) . نعم كان الرئيس طالباني صمام أمان ليس للعراق وشعبه فحسب بل لعموم المنطقة؛ وذلك عن طريق حنكته السياسية والدبلوماسية حيث تمكن من خلق جو وارضية خصبة بين الفرقاء وايجاد القاسم المشترك حتى بين المتخاصمين. ولعب دوراً محورياً ومهماً للتصالح مع جيران العراق ودول الاقليم والعالم على اسس المصالح المشتركة خدمةً لمستقبل الشعب العراقي و شعوب تلك الدول.
لا تحصى الانجازات التي تحققت في العراق في عهد الرئيس مام جلال. إن مشاركة العراق في المؤتمرات العربية والاسلامية والعالمية، الزيارات المتواصلة لرؤساء وقادة الدول الكبرى والاسيوية والعربية والاسلامية الى العراق وانعقاد القمة العربية الثالثة والعشرون في بغداد شهر مارس ٢٠١٢ خير مثال على عودة العراق الى محيطه العربي والعالمي وريادته في القضايا الملحة ومشاركة جميع الفئات والمكونات في مفاصل الحكم على مبدأ التوافق، الازدهار التجاري والاعماري والاقتصادي ورفع الحالة المعيشية لابناء الشعب خير دليل على تحسين الوضع الداخلي نسبياً رغم كل التحديات الامنية والتهديدات الارهابية، وكان الكل يتفاخر ويعتز بان مام جلال رئيس بلدهم و راعٍ لمصالحهم العليا وكانوا لا يخشون ماذا يحدث غداً للعراق لان مام جلالهم موجود.
صحيح ان الرئيس مام جلال كان كردياً وناضل في جبال كوردستان من اجل اقامة دولة ديمقراطية وضمان حق الشعب الكردي كسائر ابناء الشعب العراقي، لكنه لم ينسَ يوماً او لحظةً معاناة الآخرين وإضطهادهم من قبل الدكتاتورية، لذلك عند تسنمه منصب رئيس الجمهورية ارتدى عباءة عراقية لينعم كل الافراد في العراق تحت ظله بالعيش الكريم ويشعرون بأمان وطمأنينة، وزرع روح وشعور المواطنة في نفوس العراقيين ومنحهم الثقة الكاملة بانهم في سفينةٍ قبطانها بارع ومتمرس وسيصل بسفينتهم الى بر الامان .
مع الاسف الشديد هذا الاب الحنون غادرنا مبكراً الى مأواه الاخير وأبكى الصغير والكبير وترك مكانه شاغراً ليس بوسع احد حتى هذه اللحظة ان يملأه ولم نر بعد كاريزما اخرى تكون جامعة وتغلب مصلحة الشعب فوق كل المصالح الضيقة.
مكانة وكاريزما الرئيس مام جلال لم تخلق بمحض الصدفة بل وليدة للنضال التأريخي الذي خاضه خلال اكثر من ستين عاماً و لم يستكن حتى ايامه الاخيرة في حياته الناصعة كتأريخه الناصع.
الحديث عن مام جلال وفكره السياسي وروافد حياته يحتاج الى كتب لا بل يحتاج الى مكتبةٍ كبيرة وواسعة لبيان امكانياته السياسية، الصحافية، الثقافية المتنوعة، القانونية، الدبلوماسية، والفكرية بصفته كان مفكراً عظيماً. وكان مام جلال ذا خبرة كبيرة في العمل النقابي والمهني وأسس أول منظمة الطلابية وشبابية ونسوية وشارك في ربيع عمره كسياسي كبير ومحترف في المهرجانات الشبابية العالمية في خمسينيات القرن الماضي؛ لذلك كان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك اوباما على الحق بأن يناديه بجورج واشنطن العراق .
برحيل هذا الابن البار العراقي الكوردي، فقد الشعب العراقي مام جلاله الاب العادل الذي سهر على ضمان مستقبلهم وتوفير العيش الرغيد والرفاهية لهم، والعراق كوطن مستقل، برحيل قائده فقد جلاله و رفعته.