الكاتب .. عبد المجيد صلاح داود
في ظل سعي مؤسسات الحكومة العراقية لملمة أجيال من الطاقات والخبرات التي أُهدرت بفعل تعاقب الأزمات على المجتمع، ومحاولة إنقاذ المؤسسات بالأستفادة من خبرات تلك العقول في بناء الدولة وتصحيح مسار المؤسسات؛ لا زال العراق في غيبوبة الفوضى التنظيمية التي لازمت عرقلة أي خطة للتصحيح.
إن محاولة الإدارة الحكومية وضع إصلاحات للأستفادة من المتميزين الأوائل وحملة الشهادات العليا بزجهم ضمن المؤسسات وفق قانون تشغيل حملة الشهادات العليا رقم 59 لسنة 2017م, وقانون 67 الذي يشمل الطلبة الثلاثة الاوائل، يعد خطة تطويرية مهمة أفتقدها العراق لعقود من الزمن، أًوقعت المؤسسات الاجتماعية بين أيدي الأمية, والأمية المقنعة، ممن تسلقوا إلى المؤسسات بتأثير تزكيات الاحزاب وفساد الانظمة السياسية المتعاقبة.
على خطى ذلك اتجهت الدولة العراقية صوب استحداث مجلس لإدارة عمليات التوظيف أَطلق عليه مجلس الخدمة الاتحادي، في خطوة لتحقيق النزاهة والموضوعية في عملية التوظيف وتجاوز سيطرة الاحزاب السياسية على الوزارات، وبلا شك لم يخلو ذلك الإجراء من تعقيدات وتدخلات سياسية، إلى جانب معوقات تنظيمية خاملة كشفت وهن الوزارات المتعاقبة وضعف قدرتها على إدارة مؤسسات الدولة طيلة مدد حكم الاحزاب الديمقراطية بعد عام ٢٠٠٣، ومن أبرز تلك التعقيدات، هي مراوغة المؤسسات ومطاولتها في إرسال الاحتياجات الوظيفية إلى مجلس الخدمة الاتحادي كوسيلة ضغط ورفض ضمني، و رغبة غير صريحة من الوزارات ومؤسساتها من أجل ادارة داخلية لتلك الوظائف بما يخدم أهداف الحزب ومصالحه السياسية؛ الى جانب انعدام الدقة والضبط التام لبيانات الخريجين من كلتا الفئتين, اذ برزت العديد من الاخطاء التنظيمية والتقنية.
أن عدد حملة الشهادات(دبلوم عالي، ماجستير، دكتوراه) بلغ 33, 861 الف وعدد حملة الشهادات المستبعدين وفق الية التقاطع الوظيفي (دبلوم عالي، ماجستير، دكتوراه) بلغ 45, 690 الف. يضاف اليه عدد الثلاثة الأوائل (دبلوم، بكالوريوس) بلغ 39, 051 وعدد المستبعدين منهم (دبلوم، بكالوريوس) بلغ 24، 421.
بناءً على تركيز مؤسس علم الاجتماع الحديث العالم الامريكي روبرت ميرتون على مقتضيات وضرورات نجاح المؤسسات، ينبغي ان تكون أهم مأخذ المجلس في إدارة تلك العملية، وهي المشاعية والعمومية. والنزاهة والشك المنظم.
اذ تمثل المشاعية: أن تمنح تلك الحقوق وتشاع لأصحاب الاولوية، و أن يتشارك بحق التعيين بأنصاف كجزء لا يتجزأ من النزاهة ونجاح العملية الأكبر على مستوى التوظيف.
بينما نجد في العمومية : أن يَخضع جميع المرشحين بالأحقية لنفس المعايير، لا أن تتعارض بيانات البعض مع المعايير، وتتجاوز بيانات الأخرين.
أما النزاهة: تعمل كافة المؤسسات المشتركة لصالح البناء الاجتماعي العام وخدمة للمجتمع، من مبداً الانضباط المؤسسي، والنزاهة العامة والفردية، وأن لا يقع نزاع نفسي، الهدف منه تبني منفعة خاصة. فالانضباط المؤسسي يتطلب أمانة والتزام ورقابة مهنية، إذ لم يتحقق اذا ما أوقع تضارب في البيانات. والنزاهة الشخصية، تتطلب احترام حقوق الأخرين وعدم التجاوز عليها.
وبالتالي الشك المنظم: أي أن تكون البيانات عرضة للتدقيق والمراقبة والانتقاد، وأن يتم التعامل مع تسويف الحقائق والتثعلب على الضوابط المؤسساتية وفق القانون.
على هدى ذلك و وفق استطلاع رأي أجري على مواقع التواصل الاجتماعي لإحصاء مشكلات حملة الشهادات العليا والاوائل, تبين إن عملية التوظيف وفق هذين القانونين، أفرزت جملة من الأخطاء التنظيمية,
من أبرز هذه الأخطاء التنظيمية:
- عدم ظهور تقاطع وظيفي لإعداد كبيرة من حملة الشهادات العليا والاوائل، على الرغم من انتسابهم بصفة وظيفية لمختلف الوزارات وعملهم ضمن المؤسسات بحدود الخمس سنوات، وفق استطلاع الكتروني أجراه تجمع وطن لدعم حملة الشهادات العليا والاوائل على مواقع التواصل الاجتماعي، لتحديد أبرز المشكلات والأخطاء. , التي شابت هذه العملية.
- شمول من بأسمه راتب تقاعدي لذويه بالتقاطع، وهذا إجراء إداري غير عمومي، يظلم حق العديد من الخبرات والطاقات من اصحاب الشهادات والتميز، لأن من منهم لديه راتب تقاعدي لغرض اعانة الاسرة، ويمثل مبلغ قليل، و غير مبرر اضاعة تلك الخبرات بمثل هكذا أجراء غير منصف.
- هناك أعداد كبيرة ممن يمتلكون أكثر من شهادة (ضمن اوائل شهادة البكالوريوس، و شهادة عليا)، ظهر لديهم تقاطع وظيفي في شهادة ولم يظهر في الأخرى، بذلك يتعارض هذا التناقض مع مقتضيات النزاهة، ويمكن ان ننسبه لتسويف و تأثير يحصل داخل الوزارات.
- هناك العديد ممن يمتلكون عقود, لكن لم تظهر اسمائهم ضمن التقاطع الوظيفي, الذي أَجري بقطع بياناتهم مع بيانات وزارة المالية, وما يدل على تخبط مؤسسات الدولة وضعف مركزيتها, ومؤشر لوجود هدر مالي داخل المؤسسات.
في خضم التحولات المجتمعية التي انبرت على المجتمع العراقي, لحقت بفوضى النظم اختلالات قيمية، انعدمت شيئاً فشيئاً التزامات المواطنة مما افرزت سلوكيات نفعية انتهازية، وتنافس قائم على الانانية وتخلخل القيم الروحية والاخلاقية، ومن مظاهر ذلك الخلل:
- رغبة الافراد ممن لديهم عقود وارتباطات وظيفية لم تظهر في التقاطع الوظيفي بسبب الأخطاء التنظيمية وعدم دقة البيانات، للتقديم من جديد على الدرجات المستحدثة لحملة الشهادات العليا والاوائل، وهذا الفعل تنافسي منفعي انتهازي، يضايق أصحاب الحق في التعيين، ويزيد من أعداد المشمولين وبذلك يدخل المجلس والوزارات في دوامة سد فراغ وفتح أخر في مكان ثان.
- بناءً على ملاحظة ردود فعل المعنيين، تبين هناك العديد ممن يمتلكون عقود وزارية، اعترضوا بطريقة رسمية، على انهم قد استقالوا مسبقاً من وزاراتهم، محاولة لتسويف الأمر وانتهاز فرصة للتعيين من جديد.
- يرى البعض منهم انه إجراء تعسفي بحقهم، وان التوظيف يجب ان يشمل الجميع حتى من يمتلك عقد وزاري، وهو إدعاء منفعي خالص، لا سيما وأنهم يستلمون رواتب شهرية وضمنوا جميع مستحقاتهم.
إن الاضطراب الذي يصيب النظام الاجتماعي, يحصل وفقاً لنظرية ميرتون عندما تتعارض الاهداف مع الوسائل, بالشكل الذي لا يحقق الفائدة لكل افراد المجتمع, وبذلك يحدث شكل من اشكال الانحراف عن القيم والمعايير الاجتماعية, ونلتمس من ذلك ان تراكم الأخطاء التنظيمية في ظل اختلال القيم الاجتماعية, ممكن ان ينذر بانحلال اخلاقي معياري, في حال حصل أقصاء او تعارض لأهداف الفئات المستحقة وفق القانون ممن ليس لديهم أي تقاطع, بالتالي تنتشر مظاهر الفساد والرشوة بين جانبي الحضن(انعدام التنظيم وشيوع القيم النفعية الخاصة).
نقلا عن المدى