أخصعت الكاتبة الكردية كه لاويز صالح فتاح عملها الأخير “كنة آتة خان” لجنس القصة، رغم انتمائه لجنس الرواية، ومع ذلك فهو محاولة جريئة للتأمل في السرد الكردي القادر على جمع العناصر التراثية والشعبية لأمة تنتمي وبقوة إلى المكان الذي تتفتح فيه حريته.
إن ديناميكية هذا العمل نابع من قوة ملاحظة الكاتبة، وتمكنها من تحويل السرد إلى واقع، والواقع إلى عمل فني أكثر تأثيراً. حيث اعتمدت الكاتبة على زواية نظر ثابتة، كي تلتقي جميع الأحداث والأفكار في نقطة مشتركة. فالكاتبة كه لاويز تبحث في عملها الأخير- كنة آتة خان – عن أبنية تعبيرية متلائمة مع زخم الواقع الكردي.
وكل مايمكن قوله في هذه القصة الكردية الطويلة (121 صفحة من القطع المتوسط)، أنها حافظت على طابعها الواقعي، وانها عكست صورة عالمنا الكردي بعمق وصدق. وانها-هذه القصة الكردية الطويلة- أفضل نموذج للواقعية الاجتماعية. وبما أن الابداع الأدبي الحقيقي، يتجه بخطابه نحو الانسان أينما كان، لذا فنحن بحاجة إلى التسامح لتشجيع الحوار بين الثقافات.
هذا كل ما نستطيع استنتاجه في نص “كنة آتة خان”، القائم على تواصل الحوارات وتبادل المنافع والمعلومات، كنوع من الاحترام للانسان وللعقل وللحرية. فكل مجتمع لا يحترم فيه الانسان، لا تولد فيه الحرية.
من هنا تطالب كه لاويز في “كنة آتة خان” بتكريس القيم الانسانية من أجل عالم أفضل، تسوده الحرية والعدالة والمساواة. لذلك عندما نقرأ هذا النص، فأننا نقرأ شغف القول والرؤية الجريئة للواقع والحياة الكرديين، بوعي ابداعي، يرفع من فاعلية الامور الاجتماعية لنشر الثقافة الاصيلة للامة الكردستانية، التي سلاحها الحق، وغايتها الحرية.
وفي مقاربتنا هذه سنتطرق لأساليب السرد والوصف والحوار، حيث نقرأ في الصفحة (4):” كانت آتة خان قلقة، لايستقر بها مكان، تحيب الساعات والايام لقدوم يوم الجمعة، وكانت تتخيل أن هذه الايام القليلة بمثابة سنوات لانها لا تنقضي بنظرها، فهو الموعد الذي كانت تنتظره منذ سنوات”. هذا الموعد، هو موعد قدوم ابنها المغترب حسن، وكنتها الانكليزية جيني، وحفيديها آلان وسوزان. وهذا القلق الذي تصفه الكاتبة قلق مشحون بحنان الام الذي لا يعرف الحدود. لذلك عندما قالت لها ابنتها بخشان: “ستلتقين بهم ان شاءالله وتشبعين من رؤيتهم، ومن المحتمل أن تزعلي منهم بعد فترة، أو حتي تتشاجرين معهم”. ضربت آتة خان بيدها على صدرها وقالت بلهفة:” ويحكِ! ماذا قلتِ؟ لخرس لساني لو قلت يوما لأحدهم تحت عينيك الكحل”. ردت بخشان ضاحكة: لاسامح الله، بعيد عنك ان شاء الله، لنرى! نظرت آتة خان الي ابنتها وزوجها وابتسامة مرتسمة على شفتيها، ثم اردفت قائلة: “أعتقد انكما تحسدانني على حبي لولدي الغائب”.
حسب هذه النماذج نجد ان التفاعل الحواري يوزع المعني بين الخطاب والمخاطب داخل بنية متوازية لاستثمار الوسائط التي يتيحها النظام السردي لتقديم فكرة متباينة، لاكتشاف التفاصيل في الحوار القائم بين حالات مختلفة (ألام:آته خان، الابنة:بخشان،الاب:ميرزا علي). حيث يتطور هذا الحوار الأسري ويتنامى ليصل إلى نهاية غير متوقعة، وخاصة عندما تقول بخشان لأمها: “أحلفك بالله كم هو عدد المرات التي صنعت فيها بيديك المعجنات واشتريت الحلويات ثم استغنيت عنها وعدت الي صنعها أو شرائها من جديد؟ تصوري الصعوبات التي نعانيها للحصول على الجوز، ومع ذلك تقومين باستبداله مرات ومرات لانك لست راضية عن جودته؟ هذا الحوار بين الام وابنتها يحث الأب ميرزا على الكلام: هل أبقي أولئك الموصومين بالعار على أشجار الجوز، حتى نحصل على الجوز الجيد في السوق؟ انها تتصور- والكلام لميرزا علي- مازلنا في أيام زمان، ان هذه الحكومة(صاحبة الضمير الحي) لم تبق على شيء، انها احرقت، الأخضر واليابس، وقطعت جميع الاشجار المثمرة، بما فيها اشجار الجوز وأحرقتها، الهي أحرق بيوتهم وتنهار عليهم. وكأن ميرزا علي يتساءل: وهل أبقوا على قرية، حتى تبقى أشجار الجوز.
هناك علاقة لاحصر لها تربط المواضيع مع بعضها من خلال وجهات نظر مختلفة، وكأن وعي الكاتبة قد انعكس بشكل ما على طبيعة افكار الشخصيات.ربما لاحداث جدل في طاقات الحوار،سواء على مستوى الذاكرة،الذي هوعبارة عن تراكم عناصر من الماضي.أو على مستوى التاريخ، الذي هو عبارة عن تراكمات أحداث وفواجع وكوارث.على اعتبار أن المعرفة بالاساس هي الكشف عن الحقيقة وفي هذه الحالة فان الاستجابة تتجه لتشمل تغطية أكثر سعة وتمثيلا للحياة كاشارة تساعد على التفاعل النسبي في تحريك صورة الواقع: ان الطفل على حق. هل ضروري ان تكون الآذان عبر مكبرات الصوت وبهذا الشكل المزعج وافلاق راحة الاطفال، لست أدري هل كان هناك مايكروفون في زمن النبي”ص”؟ في لحظة واحدة عشرات المآذن تبدأ ببث الأذان وعبر مكبرات الصوت وفي هذا الوقت الباكر قديما كان الناس يعتمدون على ساعاتهم وفي الموعد المحدد يستيقظون ويذهبون الي الجوامع يؤدون صلات الصبح ويعودون دون ان يزعجوا أحد، هل ان هذه الاصوات التي تملأ المدينة صخبا ضرورية للصلاة؟ وفوق كل هذا الضيم فأن مؤذن جامعنا يملك صوتا أجش لا يسر السامع. وقبل أن تنهي آتة خان تعليقاتها أنهى المؤذن الآذان ايضا. وهنا يتدخل ابنها حسن وهو متثائب: اذهبي اماه الي النوم، لعل الطفل يتعود على الآذان. كان جواب الام هو كالآتي: لا يابني، عليّ أولاً أن أؤدي صلاة الفجر.
تتمثل هذه الكتابة الانتقادية الساخرة بوعي فلسفي لتصحيح السلوكيات الخاطئة التي أصبحت من الاخطاء الشائعة. وهنا تعد الكاتبة كه لاويز رؤيا تحتضن حركة الواقع وترتبط بخط الصيرورة والتجاوز بأسلوب سلس وشيق، عبر تصورات ناجمة عن حالات ومواقف وأحداث تحركها الكاتبة بذكاء لرصد ظواهر أجتماعية مرتبطة أصلا بعواملها التاريخية والبيئية.
- لقمان محمود – شاعر كوردي من سوريا مقيم في ألمانيا