الكاتب.. عبدالمنعم الأعسم
حزينة ومنبوذة وخجولة مرت مناسبة اليوم العالمي للتسامح في العراق، الاسبوع الماضي، وهي من ابرز المناسبات الانسانية التي يجري احياؤها في الكثير من الدول لجهة درء ثقافة الكراهية والتخويف والحملات الثأرية، وواحدة من انجازات عصر التنوير والتعايش واحترام التعددية والحوار موصولة، باضطراد، في مواقف حية وتشريعات مدنية على نطاق واسع، وكان نيسلون مانديلا أحد اركان «الاعلان العالمي للتسامح» لعام 1994 حيث افتتح رئاسته لجمهورية جنوب افريقيا بقرار إبقاء الأنصاب والتماثيل التي أحبّها البيض في الشوارع العامة وعدم معاقبة شرطة نظام الابارثيد عن جرائمهم التي ارتكبوها ومنع نشر أسمائهم علانية، فيما ذهب الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران (آنذاك) الى اسقاط الاحكام عن مدير شرطة باريس بوسكيه، المسؤول المباشر عن قتل سياسيين معارضين للهتلرية ومعهم أربعة آلاف طفل، وقد حدثت ضجة كبيرة بسبب هذا الاعفاء، ورد ميتران في حينه بالقول: نحن لا نستطيع أن نعيش حياتنا كلها سجناء هذه الذكريات وهذا الحقد.
التسامح كمنظومة تجريدية من العقائد والالتزامات والثقافات العصرية، يبدأ من استعداد الافراد لطي صفحات الصراع ودورات التنكيل، ما يعطي الفرصة والبيئة للمذنبين انفسهم لمراجعة ذنوبهم والاعتراف بها والاعتذار عنها.. تلك هي المعادلة «الاشكالية» التي لا يخوض فيها الناشطون والباحثون في بلدان كثيرة، مرت، او تمر، في نزاعات سياسية واثنية ودينية ومجتمعية، ويتجنبها السياسيون الذين يشيدون رصيدهم ونفوذهم على إثارة الكراهيات ونعرات الانتقام بين شرائح المجتمع والسعي للقصاص وسد منافذ الاوكسجين على الجناة وعائلاتهم وذريتهم.
ثمة مسرحية عُرضت بلندن عام 1990 عنوانها (الموت والعازبة) وهي مسرحية تشيلية أبطالها ثلاث شخصيات وهم المحامي جيراردو، وزوجته بولينا سالاز والطبيب ميراندا، حيث عُهدت للمحامي (الزوج) مهمة المشاركة في لجنة تحقيق بالجرائم التي ارتكبتها دكتاتورية أوغستو بينوشيه وكان من دُعاة التسامح ويريد أن يخرج من هذا التحقيق مع الجلادين بما يرسِّخ السلم الأهلي في العهد الديمقراطي الجديد. يصادف المحامي وهو في الطريق إلى منزله ليلا أن تتعطل سيارته في مكان محرج وبعد ساعات طويلة من الإنتظار تقف إلى جانبه سيارة فيقدم صاحبها (الدكتور ميراندا) عرضا بالمساعدة في إصلاح عطل السيارة، وهكذا، يبادر المحامي إلى دعوة الطبيب إلى منزله لتناول كوب من الشاي بهدف التعارف وردّ الجميل، وهذا ما حدث، إذ تقبل الزوجة للترحيب بالضيف فتفاجأ وتصرخ قائلة: إنه جلادي، ثم تصاب بالهستيريا إذ تتذكر كيف اغتصبها هذا الطبيب في زنازين الفاشية وعذبها، فيما يحاول المحامي الزوج أن يقنع زوجته الضحية بأن تصفح عن جلادها لطي صفحات الماضي البغيض، لكن بولينا سالاز تفقد السيطرة على نفسها فتمسك بالمسدس وتهجم على الطبيب الجلاد وتوثقه على كرسي وتدخل معه في حوار متوتر وحساب واستذكار. والمهم ان المسرحية اثارت جدلا واغنت الحوار حول موضوعة التسامح تجاوزت خشبة المسرح الى فضاء العقل الانساني.
من هذه الزاوية يبدو ان الدعوة الى اشاعة التسامح في عراق جرى اخضاعه لكوابيس التعصب والتمييز والانتقام عقوداً تفتح بوابات الصدام بحراس الكراهية وسلطتهم.. وهذا يُفسر لماذا مرّ يوم التسامح العالمي في السادس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر بجنازة صامتة بدل ان يُحتفى به كيومٍ لبشرية تحترم نوعها.