أكدت ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت، اليوم الأربعاء، أن التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية والبيئية والمؤسسية في العراق ظلت ثابتة إلى حد كبير.
وقالت بلاسخارت خلال كلمة في ملتقى السليمانية تابعه المسرى إن ” العراق قد اجتاز عبر تاريخه أوقاتاً قاتمة وصعبة للغاية، لا تزال عوامل عدم الاستقرار في الماضي القريب للبلاد، هي نفسها مما أدى إلى نمطٍ من الأزمات المتكررة”.
وأضافت أن ” هذه الأزمات ” تشمل الفساد الممنهج والحوكمة الضعيفة ورداءة تقديم الخدمات والبطالة والاعتماد المفرط على النفط،وكل ذلك يؤثر بدوره على المواطن العراقي العادي ويغذي الشعور العام بالظلم ويؤدي إلى تفاقم التوترات داخل المجتمعات المحلية وفيما بينها.
وفيما يلي نص كلمة الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين هينيس بلاسخارت في منتدى السليمانية السابع:-
أصحاب المعالي
السيدات والسادة
عند مشاركتي في هذا المنتدى منذ أربع سنوات، في آذار 2019، بدأت بالقول بأنني سأتحدث بصراحة وبطريقة تحفز التفكير، حتى نتمكن أن نحاول بصدق وبطريقة بناءة معالجة بعض المشاكل المتأصلة في العمليات والمؤسسات العراقية. وإذا سمحتم لي، سأفعل ذلك مرة أخرى اليوم.
وفي ذلك الوقت، قلت إنه فقط من خلال التركيز على المخاوف المنهجية، سيكون من الممكن استعادة الثقة العامة. وحذّرت من أن الغضب الشديد ينفجر بسهولة، وأن عدم اتخاذ أي إجراء سيؤدي حتماً إلى حلقة جديدة من العنف.
ماذا حدث بعد ذلك؟ وأين هي الأمور اليوم؟
وبالطبع، نتذكر جميعاً المظاهرات الواسعة التي اندلعت في تشرين الأول من نفس العام.
حيث نزل الكثير والكثير من العراقيين – من جميع مناحي الحياة – إلى الشوارع، احتجاجاً على انسداد الآفاق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتعبوا من الفساد والمصالح الحزبية؛ وبعد 16 عاماً، لقد نفد صبرهم، ببساطة، حيال الوعود التي لم يتم الوفاء بها.
ما طالبوا به هو بلد قادر على تحقيق كامل إمكاناته لصالح جميع العراقيين.
وما تبقى عبارة عن تاريخ. إذ أدت الخسائر الفادحة في الأرواح وكذلك الإصابات العديدة، جنباً إلى جنب مع غياب المساءلة واختطاف الاحتجاجات السلمية من قبل كافة أشكال موازين القوى، إلى اتساع نطاق أزمة ثقةٍ كانت في الأصل هائلة.
وخلاصة القصة: أدت هذه الأحداث، كما نعلم جميعاً، إلى استقالة رئيس الوزراء، وإقرار تشكيل حكومة جديدة، والأهم من ذلك، إجراء انتخابات برلمانية مبكرة بعد ذلك بعامين، في تشرين الأول 2021.
وبينما تم الاعتراف على نطاق واسع بأن هذه الانتخابات شفافة وذات مصداقية – وهو ليس بالأمر الهين بالنسبة لديمقراطية فتية – بعد فترة وجيزة، وجد العراق نفسه في خضم أوضاع متقلبة للغاية ومشحونة سياسياً بعد الانتخابات.
لقد ذهبت الدعوات التي وجهت إلى الأحزاب لتجاوز خلافاتها أدراج الرياح. ومع تصاعد التوترات لعدة أشهر، لم يكن المرء بحاجة إلى بلورة سحرية ليرى إلى أين سيؤدي ذلك: وضع أدى إلى اشتباكات مسلحة في قلب العاصمة وأماكن أخرى.
لكن أخيراً، في تشرين الأول 2022، بعد أكثر من عام من الخلاف ولعبة النفوذ، أقر مجلس النواب الحكومة العراقية الجديدة بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني. وكان الوقت قد حان لذلك.
سيداتي وسادتي، بالعودة إلى الإحاطات التي قدمتها إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بشكل ربع سنوي، على مدى السنوات الأربع الماضية، فمن الواضح بلا شك: أن التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية والبيئية والمؤسسية ظلت ثابتة إلى حد كبير.
ما الذي يعنيه ذلك؟
يعني ذلك أن العديد من التطلعات والمطالب – التي برزت في تشرين الأول 2019 – لا تزال حية. ويعني ذلك أن الحلول المؤقتة لا تجدي. ويعني ذلك أيضاً أنه يجب التخلي عن التقاعس السياسي.
ويعني، إضافة إلى ذلك، أنه سيستمر اختبار صبر العراقيين وصمودهم.
لماذا؟ لأنه لا يمكن لأحد أن يتوقع من الحكومة الجديدة، هذه الحكومة، أن تحقق المعجزات بين عشية وضحاها. حيث يستغرق التعامل مع التركة الهائلة لماضي العراق والتحديات العديدة للحاضر وقتاً.
وبالتأكيد، تغلّب العراق على بعض العوائق الرئيسية قصيرة الأمد التي كان يواجهها فور الإطاحة بصدام حسين. ولكن منذ ذلك الوقت، واجهت البلاد مجموعة كبيرة من الأحداث والاتجاهات المزعزعة للاستقرار، على الصعيدين الداخلي والخارجي على حدٍّ سواء.
على سبيل المثال لا الحصر: بدءاً من العنف الطائفي المميت والقتال ضد تنظيم داعش والجماعات المسلحة التي تعمل خارج سيطرة الدولة والتنافس بين القوى الخارجية المختلفة إلى جائحة كوفيد-19 والتحديات البيئية الهائلة والآثار السلبية لتغير المناخ.
والآن نجد أن هذه الأحداث التي وقعت على مدار العشرين عاماً الماضية لم تؤد إلى تفاقم جوانب الضعف الحالية الموروثة من العقود السابقة فحسب، بل كشفت أيضاً عن نقاط ضعف جديدة.
بعبارة أخرى، في حين أن العراق قد اجتاز عبر تاريخه أوقاتاً قاتمة وصعبة للغاية، لا تزال عوامل عدم الاستقرار في الماضي القريب للبلاد، إلى حدٍّ كبير، هي نفسها – مما أدى إلى نمطٍ من الأزمات المتكررة.
وتشمل هذه الأزمات، من بين أمور أخرى، الفساد الممنهج والحوكمة الضعيفة ورداءة تقديم الخدمات والبطالة والاعتماد المفرط على النفط. وكل ذلك يؤثر بدوره على المواطن العراقي العادي ويغذي الشعور العام بالظلم ويؤدي إلى تفاقم التوترات داخل المجتمعات المحلية وفيما بينها.
ومع ذلك، نعلم أيضاً أنه يمكن أن تظهر فرص جديدة من أي أزمة. ودعوني أؤكد على ذلك قبل أن يتكون لدى أي شخص انطباع بأن العراق قضية خاسرة. ليس الأمر كذلك.
يمتلك العراق إمكانات هائلة. ورسم صورة متصاعدة من الشعور بالهلاك ليس هدفي هنا على الإطلاق.
لذا، دعوني أؤكد مرة أخرى: إن إقرار حكومة العراق الجديدة الذي تمّ مؤخراً بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، يوفر فرصة بالغة الأهمية. فرصة لإعادة البلاد إلى مسار الاستقرار.
ففي أحدث إحاطة لي قدمتها إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أوائل شباط، ذكرت أن الحكومة العراقية أبدت عزمها على معالجة عدد من القضايا الملحة.
ومع ذلك، ما زال الوقت مبكراً بالطبع. لذلك لا يسعني إلا التأكيد مرة أخرى على أن أي حكومة تحتاج إلى بعض الوقت لإنجاز الأمور. وكذلك، لكي تحقق أي حكومة تقدماً ملموساً، فإن الدعم واسع النطاق- سواء كان ذلك من داخل التحالف أو خارجه – يعدّ متطلّباً أساسياً.
الأمر بسيط للغاية: إن نوعية التغيير العميق الذي نحتاج إليه الآن يتطلّب التزاماً ثابتاً من طيفٍ واسع من الأطراف الفاعلة. وبالتأكيد، يتطلب أيضاً وضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار.
وفي المقابل، يحتاج الشعب العراقي إلى أن يرى تقدماً يتحقق (ببطء ولكن بثبات) لجميع العراقيين – ويشمل ذلك النساء والأقليات والشباب.
إنهم بحاجة لأن يروا أن شمول الجميع والمساواة ليستا مجرد كلمات تقال في الخطب بل يتم التعامل معها بوصفها من الضروريات الحتمية.
إنهم بحاجة لأن يروا أن الحيز المدني لا يتم تقييده بل يتم إفساح المجال أمامه للازدهار، مما يضمن حرية التعبير.
إنهم بحاجة إلى التأكد من ضمان العدالة والمساءلة للجميع – بغض النظر عن الانتماء أو الخلفية.
كما أنهم بحاجة لأن يروا أن إيجاد بيئة مواتية و”شاملة للجميع” هو جوهر أي سياسة أو تشريع.
السيدات والسادة، في وجود قائمة طويلة من الموضوعات المعلقة في العراق تدور في أذهان الجميع – من المهم التركيز وعدم تشتيت الانتباه أو التسبب في مشكلات جديدة وغير ضرورية للحكومة.
بعبارة أخرى، ما هي الأولويات اللازمة من أجل كسر حلقات انعدام الاستقرار؟ ما هو التأثير المحتمل لقانون أو لائحة معينة؟ وكذلك، هل من الممكن أن يكون مثيراً للجدل أو للانقسام؟ هل من الممكن أن يستعدي المجتمعات المحلية؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للدعم واسع النطاق الذي تشتد الحاجة إليه الآن؟
وسواء كان ذلك تغييرات محتملة في قوانين قائمة أو دخول حظرٍ حيز التنفيذ أو قيود محتملة على الحقوق والحريات – يعتبر تجاهل التأثير الأوسع نطاقاً عملاً محفوفاً بالمخاطر.
إذاً، يجب أن يكون السؤال طوال الوقت هو: هل يستحق الأمر بالفعل الوقت والجهد أم أن مجموع هذه القضايا، في مرحلة معينة ، سيكون أكبر من كل أجزائه؟ – وبالتالي (مرة أخرى) يتم تشتيت انتباه الكثيرين عن الأولويات الرئيسية، بل وإبعادهم؟!
وعليه، السيدات والسادة، اسمحوا لي أن أعود إلى القائمة الطويلة من القضايا الملحة.
وسأذكر القليل فقط منها:
أولاً وقبل كل شيء، وكما أوضح رئيس الوزراء سابقاً، فقد وافق مجلس الوزراء على الموازنة الاتحادية لعام 2023، وهذا خبر جيد بالفعل. وبطبيعة الحال، لا يزال يتعين على البرلمان إقرارها. وبالطبع، بدون موازنة يقرها البرلمان، فإن تنفيذ برنامج الحكومة سيتأخر كثيراً- بما في ذلك تقديم الخدمات العامة.
والأهم من ذلك أن ارتفاع أسعار النفط لا يمكنه أن يبقي البلاد واقفة على قدميها. وبالمثل، فإن خلق الوظائف بشكل مستدام لا يمكن تحقيقه من خلال زيادة تضخم القطاع العام. هناك حاجة ماسة إلى إصلاحات اقتصادية ومالية.
ويجب أن تتجاوز جهود مكافحة الفساد المنهجي في العراق الأفراد أو الأحداث. إن النظام الذي تم تأسيسه بعد عام 2003 ببساطة لا يمكن أن يستمر. وإذا ترك كما هو، فسوف يأتي بنتائج عكسية مرة أخرى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن القضايا العديدة العالقة بين بغداد وأربيل تتطلب قيام علاقات مؤسسية. وفي غياب ذلك، سيتحسن القليل وليس الكل.
وهنا أيضًا، يمكنني الاستمرار.
مرة أخرى، لنختصر قصة طويلة: في خطابي لكم، هنا في السليمانية – في عام 2019، صورت مشهداً تشوبه سياسة الفصائل والأطراف الفاعلة غير الحكومية واختلال موارد الدولة وسوء الخدمات ونقص الوظائف. والآن، بعد مضي أربع سنوات، لا يزال العديد من هذه القضايا قائماً بشكل بالغ الحدة.
ما أقوله في الأساس، أنه لا يوجد وقت لنضيعه.
من المؤكد أن التحديات التي تنتظرنا متعددة. وسيكون من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن إرث الصعوبات الماضية والتهديدات الناشئة حديثاً سيتوقفان عن اختبار قدرة البلاد على الصمود.
ونعم، كأي دولة أخرى، سيخضع العراق للاختبار – عاجلاً أم آجلاً. ولكن ما يدعو إلى الخوف هو أنه إذا لم يتم اتخاذ إجراء سريع، فإن العراق سوف يفشل في هذا الاختبار.
ولذلك، من المهم الرسّو بالبلاد في الاستقرار الذي تحتاجه لتتحمل الصدمات المستقبلية. ولكي يحدث ذلك، يجب أن نتعلم بشكل جماعي من التاريخ – والتاريخ الحديث في الوقت ذاته – لتجنب تكراره.
سيداتي وسادتي ، تركز كلمتي اليوم على العراق ككلّ، ولكن الاقتتال السياسي الداخلي والمصالح الخاصة للأحزاب في إقليم كردستان لا يمكن إغفال ذكرها.
فعند مشاركتي في فعالية جرت في جامعة كردستان منذ ما يقرب من عامين، في أيار 2021، اختتمت كلمتي بالقول بأن إقليم كردستان لديه خيار:
يمكنه أن يتحد ويتصدى للفساد المنهجي وأن يعزز احترامه للحقوق والحريات الأساسية، وأن يحقق تقدماً ملموساً في الإصلاح الأمني والاقتصادي، وأن ينخرط في حوارٍ على الرغم من الخلافات الداخلية التي تبدو في بعض الأحيان (أعترف بذلك) أنه لا يمكن التغلب عليها. أو يمكنه أن يفشل في ترتيب شأنه الداخلي، والمخاطرة بما حققه خلال العقود الماضية.
ويؤلمني أن أقول ذلك، لكن الكثير من الناس يتساءلون: ما هو جرس الإنذار الذي تنتظره الأحزاب؟
السيدات والسادة، في الختام اسمحوا لي أن أؤكد: إننا نأمل مخلصين أن يتمكن العراق – بالاعتماد على ثروته الهائلة وتنوعه وفرصه وإمكانياته- الآن، وبالتالي يتم تمكينه، من المضي قدمًا بنجاح.
بعد 20 عاماً، تستحق البلاد أن تتجاوز الحلقات اللانهائية من عدم الاستقرار والأوضاع الهشة. إن العراقيين على دراية تامة بالحياة التي وعدوا بها بعد صدام. وبعد عقدين من الزمن، فإنهم يستحقون ما هو أفضل.
إن الأمر بهذه البساطة، وأنا مقتنعة أنه لا يزال بإمكاننا جميعاً استشراف ذلك المستقبل الموعود.
شكراً لكم،