عدنان حسين أحمد
تنتمي رواية ” الأم والابن ” للكاتبة الكردية كلاوﯿﮋ صالح فتاح الى تيار الرواية الواقعية النقدية. فقد بذلت الكاتبة قصارى جهدها لكي تقدّم عملاً مرآوياً يعكس الصورة الحقيقية لواقع الشعب الكردي إبّان حقبة الخمسينات من القرن الماضي. كما انطوت الرواية على حسٍ نقدي واضح يتبرم من الأوضاع السياسية التي أفرزها الحكم الملكي في العراق. وكاتبتنا لا تريد الترحّم على حقبة الحكم في الملكي في العراق، ولا تدعوا الى ” نسيان ما عاناه شعبنا يوم ذاك من سجن وتعذيب وتشريد وسياسة عنصرية وطائفية ورجعية وطبقية “. الملاحظة الأولى التي تؤاخذ عليها الكاتبة أنها أسمتْ روايتها ” قصة ” في حين أنها نص روائي متكامل يستجيب لاشتراطات الرواية ومعطياتها المعروفة. كما وقع في الخطأ التجنيسي ذاته الأستاذ عباس البدري الذي كتب مقدمة لهذه الرواية التي أسماها بـ” القصة الروائية ” وهو توصيف نقدي غير دقيق يمزج بين نوعين أدبيين مُختلفين عن بعضهما البعض حتى وإن كانت ” القصة ” هي البنت الشرعية لـ” الرواية “. ولتأكيد صحة ما نذهب اليه لا بد من تفكيك هذا النص الى عناصره الأولية التي شكلّت متنه وهيكله العام وهي عناصر ومواد روائية مستوفية لشروطها المعروفة من زمن وأمكنة وأحداث وشخصيات وراوية عليمة ترتدي قناع بعض الشخصيات، وتُطل بين أوان وآخر كما دعتها الضرورة لتعزيز هذه الفكرة أو تلك.
الزمن الروائي
ارتأت الكاتبة التركيز على حقبة الحكم الملكي حينما كان فيصل الثاني ملكاً ” صورياً ” على العراق، فيما كان يدير دفة الحكم عبد الإله الوصي على العرش. ولو توخينا الدقة لاكتشفنا أن الكاتبة قد حصرت الزمن الروائي بما ينطوي عليه من اختزال للزمن الواقعي بالمدة الزمنية الواقعة بين زيارة الملك فيصل الثاني الى محافظتي كركوك والسليمانية وحتى إذاعة البيان ” رقم واحد ” الذي ” حرّر الوطن من سيطرة الطغمة الفاسدة التي نصّبها الاستعمار ” كما ورد في متن البيان المذكور. والمُلاحظ أن الكاتبة كانت تريد التطرّق الى تلك الحقبة برمتها لوضعها على منضدة التشريح النقدي ورصد سلوك ” الطغمة المُستبدة ” التي لم تحكم بالعدل والإنصاف المطلوبين. إن ما يعزز روائية هذا النص هو تعدد الأمكنة التي تحركت فيها الشخصيات الروائية انطلاقاً من السليمانية مروراً بكركوك والموصل وزاخو وبغداد، وانتهاء بالسليمانية على أمل الانتقال الى كركوك مجدداً طبقاً لأوامر الحزب الكردي. إن حركة الشخصيات عبر هذه الأمكنة الكبيرة والواسعة والتي تغطي نصف المساحة الجغرافية للعراق تعزز فكرة المكان الروائي الذي يغطي بالضرورة مساحة أوسع بكثير مما يتطلبه النص القصصي الوامض والذي يتحرك في مساحة زمنية ومكانية ضيقة. ثمة أحداث كثيرة تتخلل متن هذا النص الروائي لعل أبرزها وأكثرها توتراً هي مشاهد الملاحقة المتعددة للشخصية الرئيسة في النص وهي شخصية ” كاكه حمة ” والذي تستر بأسماء متعددة مثل ” سليمان، وكاكه زائر، وقادر مصطفى حيث قبض عليه من قبل العناصر الأمنية، وتم اقتيادة الى مديرية أمن كركوك ومنها الى مديرية أمن الموصل التي قررت إبعاده الى تركيا بحجة أن جده لوالدته كان ضابطاً في الجيش العثماني، غير أن تواطؤ العريف يوسف والشرطي كاكه جوهر قد أنقذه من محنة الإبعاد حيث عاد في رحلة معاكسة من إحدى القرى المجاورة للمخفر الحدودي الى زاخو ومنها الى الموصل وكركوك قبل أن ينتهي به المطاف سجيناً في بغداد، ثم يكسر المتظاهرون السجن بعد سماع البيان رقم واحد ويحررون السجناء كلهم بضمنهم تحسين وكاكه حمة الذي يعود الى بيته وأسرته في السليمانية. وما أن تنفرج الأوضاع قليلاً حتى يفكر برد الجميل الى كل من ساعده في محنته أمثال العريف يوسف ووالده عبدالله وكذلك عائلة زبيدة خانم التي آزرته في العديد من المواقف الصعبة. أما فيما يتعلق بالشخصيات الرئيسة في هذه الرواية فهي متعددة وعميقة ومتشابكة لعل أبرزها شخصية الأم ” شمسة ” والتي تقاسمت البطولة الروائية مع ابنها ” كاكه حمة ” ولا غرابة أن ينضوي هذا النص الروائي تحت عنوان ” الأم والابن “. وعلى الرغم من أن الأم شمسة كانت الأكثر ظهوراً في سياق النص الروائي لأنها حرة طليقة غير أن الابن حمة كان الأكثر حضوراً في سياق الأحداث لأنه هو صانعها أو المحفز على خلقها. فمنذ البدء نراه مختبئاً في منزل كاكه غفور الواقع في أطراف مدينة السليمانية، ثم يُقبض عليه من قبل العناصر الأمنية المتربصة بالثوار الأكراد الذين كان يٌطلق عليهم آنذاك بـ ” المشاغبين ” ويُساق الى مديرية أمن كركوك ومنها الى الموصل وأخيراً الى أحد المخافر الحدودية لزاخو لكي يُبعَد من هناك الى تركيا. غير أن الأقدار تتدخل فيتهيأ له شخص كردي نبيل هو العريف يوسف الذي يقرر مع صديقه الشرطي جوهر اخلاء سبيل حمة لأنه ليس لصاً أو مهرِّباً، أو مجرماً، وإنما هو شخص وطني يناضل من أجل قضيته الكردية العادلة. يعود حمة الى زاخو بمساعدة العم عبد الله ومنها الى الى كركوك حيث يتبنى أحد أولاد زبيدة خانم ايصاله الى كركوك التي اختبأ فيها نحو ثلاثة أشهر، لكن القدر كان له بالمرصاد إذ دهمت عناصر أمنية منزل كاكة تحسين واقتادت كاكة حمة الى سجن بغداد الذي لم يمكث فيه طويلاً. فالثورة كانت تغلي في نفوس العراقيين وسرعان ما تفجرت في 14 تموز عام 1958 حيث ودع العراقيون النظام الملكي الى الأبد. وغب الثورة مباشرة حطم المتظاهرون أبواب السجون وأخلو سبيل منْ فيها بما فيهم تحسين وكاكة حمة اللذين عادا الى ديارهم في كركوك والسليمانية وأول شيء كان حمة ينوي فعله هو زيارة كاكة يوسف وزبيدة خانم كنوع من رد الجميل لهاتين الأسرتين الكريمتين اللتين ضحيتا بمستقبل أولادهما من أجل انقاذ كاكة حمة وايصاله الى أهله وذويه في ظروف حرجة. ثمة شخصيات أخرى لا تقل أهمية عن الشخصيتين المحورتين آنفتي الذكر من بينها عزيز بكر، شقيق كاكة حمة، الذي تعرض للاعتقال والسجن غير مرة. كما أن زوجته ” تريفة ” قد عانت كثيراً هي الأخرى وكانت تشكو من الحياة ” الغجرية ” التي تعيشها وهي تنتقل من بيت الى بيت ومن زقاق الى آخر، بل أن النص ينتهي بمفارقة لم تتوقعها ” تريفة ” بعد سقوط النظام الملكي إذ كانت تتوقع نهاية لحياة التنقل والتشرد بين الأزقة والحارات لكي تكون الأسرة في منأى عن أعين الرقباء والمتربصين، ولكن زوجها عزيز يفاجئها حقاً حينما يطلب منها أن تهيأ نفسها كي تنتقل معه الى كركوك بناء على أوامر الحزب. ثمة شخصيات خيّرة كثيرة تقابلها شخصيات شريرة قد تكون في أسرة واحدة مثل ” خاتوزين ” الطيبة التي كانت تنقل الأخبار التي ترشح عن أخيها ” فرج الأعرج ” سيء الصيت والسمعة، الى بقية العوائل الكردية. وهناك ” آفتاو ” الأنيقة التي تقوم بدور مشابه لدور ” خاتوزين ” وتنقل الأخبار التي تتسرب من المسؤولين الكبار الذين يترددون الى منزل زوجها ” رفيق آغا ” المتعاون مع الحكومة. أو ” أم وشيار ” التي كانت تستقبل في منزلها عائلة كردية ايرانية تطاردها العناصر الأمنية للحكومة. إضافة الى ” دولبر ” زوجة كاكة تحسين التي خبأت كاكه حمة ثلاثة أشهر في منزلها بينما كانت ” ميمكة بكم ” أم تحسين تقوم بتقديم الخدمات اليومية له على أكمل وجه. وبالمقابل كانت هناك شخصيات شريرة ووضيعة مثل سعيد آغا مدير المخفر الحدودي، وفرج الأعرج الذي يكتب التقارير الى الدوائر الأمنية، أو رفيق آغا الذي كرس حياته للتعاون مع الحكومة. هذه الشخصيات الدنيئة المتواطئة موجودة في كل زمان ومكان، لكنها تبقى مقصية ومخذولة ومُهانة لأنها لا تُجيد سوى عملية التمسّح بأحذية الآخرين. أما شخصية الرواية العليمة التي تتمثل بكاتبة النص ومؤلفته فهي حاضرة وتطل كلما كانت الفرصة مناسبة للتعبير عن آرائها وقناعاتها الثابتة في النضال الذي سوف يفضي الى تحقيق العدالة الاجتماعية في وطن تحكمه كل الأطياف والمكونات الاجتماعية له. لا بد من الاشارة في خاتمة المقال الى أن كلاوﯿﮋ صالح فتاح هي زوجة السياسي والكاتب الروائي الراحل ابراهيم أحمد الذي سبق له أن كتب نصاً روائياً لا يخرج عن اطار الواقعية النقدية بعنوان ” مخاض الشعب “. بقي أن نقول إن ” الأم والابن ” هي رواية جديرة بالقراءة، وهي ليست ” قصة ” أو ” قصة روائية ” وإنما هي نص روائي قائم بذاته ولا يجوز تذييله بأي نوع أدبي آخر.