تزايد هائل في اعداد المتعاطين، وامتلاء السجون بالمدانين، في ظل قوانين ناقصة واجراءات ضعيفة وغياب مصحات الرعاية واستراتيجية التوعية
خالد (أسم مستعار) عامل بناء في التاسعة عشر من عمره، يسكن جنوبي بغداد، تخلى عن اكمال دراسته في مرحلة المتوسطة لينخرط مبكرا في عالم الرجال ويقف على مساطب العمال منخرطاً بأصعب الأعمال، قبل أن يبتلى كما يقول بتعاطي الحبوب المخدرة منذ سنتين “أصدقاء عرضوها علي مجاناً قبل أن أدمن عليها ولا اطيق دونها”.
يبدو عليه الإرتباك، يتلفت بين حين وآخر كأن هنالك شخصاً ما يطارده، تنقبض ملامحه فجأة ويدخل في لحظات شرود، قبل ان يجمع كلماته ويقول بأنه واع تماماً أن كل ذلك بسبب حبوب الكبتاغون التي يتناولها باستمرار، والكرستال الذي يتعاطاه عندما يكون مجتمعاً مع أصدقائه “هي متوفرة في كل مكان ومتعاطوها يزدادون، هنا في بغداد كما في مدن الجنوب والشمال، فمروجوها يعرضون بضاعتهم بكل ثقة”.
ينهض بتثاقل من مكانه واقفا على قدميه ويشير بيديه الى الهزال الظاهر على جسده “هذا حالي معها، لا أستطيع القيام بشيء دون تناولها، سواءً كنتُ حزيناً أو سعيداً لابد أن تكون الحبوب في جيبي، أصبحت اصرف كل ما اجنيه من مال على شرائها”.
يشتري خالد الحبة الواحدة بثلاثة آلاف دينار وأحيانا بألفين وخمسمئة دينار أو أكثر حسب الموجود “أشتريها سواءً عملت أو لم أعمل، لأن هنالك من يبيعها لي بالدين”.
يؤكد بصوت حاد مرتفع محاولته الإقلاع عما يصفه بالمرض المزمن “أعرف بأن نهاية غير جيدة تنتظرني بسببها، فإن لم أؤذي نفسي أو أحداً من أشقائي أو أصدقائي، سأوذي أشخاصاً آخرين لا أعرفهم… من يبيعون لي الحبوب أحيانا يطلبون مني العمل معهم لكي أحصل على المال وآخذ ما احتاجه من الحبوب بثمنها”.
يشير إلى الزقاق المكتظ بالشبان والصبية: “الكثير من جيراننا الشباب، وحتى البنات يأخذون الحبوب أو يستنشقون الكرستال، قسم منهم لايظهر عليهم شيء، وقسم آخر يتسببون بمشاكل لأنفسهم ولأهاليهم.. أعرف أشخاصا من هنا انتهى التعاطي بهم الى السجن، أحدهم وهو يكبرني ببضع سنوات حوكم بالمؤبد لأنه كان يتاجر بها، وثلاثة آخرون سجنوا باحكام تصل الى عشر سنوات”.
يفكر قليلا ويتابع: “لا أريد أن تكون نهايتي مثلهم، وربما أسوء من ذلك”.
ما يمنع خالد من طلب المساعدة هو خوفه من معاملته كمجرم والزج به في السجن، وفي ذاكرته قصص عديدة لأشخاص عرفهم تم توقيفهم لأنهم مدمنون. هو لا يعرف ان كانت هناك مراكز لعلاج الإدمان يمكن ان توفر له العلاج دون مساءلة. هو يخشى حتى من السؤال عن ذلك.
ظاهرة متفشية
يشهد العراق وفقاً لمصادر رسمية منذ سنوات تفشي غير مسبوق في تعاطي المخدرات وبمختلف مناطق البلاد، بعد أن كان مجرد معبر لها من ايران إلى دول أخرى قبل عقدين من الآن، إذ أصبح اليوم مركزاً وسوقاً رائجة تنشط فيها شبكات واسعة من العصابات المتخصصة وبعضها مدعوم من جهات مسلحة ما يصعب ملاحقتها، كما أن أنواعا من المخدرات باتت تصنع داخل البلاد وفقاً لجهات رسمية.
فقد أعلنت وزارة الداخلية العراقية عبر الناطق بإسمها العميد مقداد الموسوي في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023 عن ضبط 3.5 أطنان من المخدرات فضلاً عن 15 طناً من المؤثرات العقلية، واعتقال 12 ألف متاجر ومتعاطي في عموم البلاد خلال عشرة أشهر فقط.
ووفقاً لمعلومات حصلنا عليها من مصادر خاصة في القضاء العراقي، فأن أكثر من 6000 حكماً قضائي صدر ضد متهمين بقضايا المخدرات في مختلف المحاكم العراقية خلال أحد عشر شهراً من العام 2023.
بينما أعلن منسق التوصيات الدولية في حكومة إقليم كوردستان ديندار زيباري، عن اعتقال 3300 متهماً بتعاطي والمتاجرة بالمواد المخدرة في مناطق اقليم كردستان وحدها، فيما أكدت مصادر أمنية كردية عن ضبط أكثر من 400 كيلوغرام من المواد المخدرة خلال سنة 2023.
هذه الإحصاءات مقلقة بالنسبة للمعنيين في الجهات الرسمية وغير الرسمية، لأنها تعني بأن هنالك أضعافاً من الكميات قد تم تمريرها بالفعل، وان آلافاً من الناشطين في مجال الاتجار بالمخدرات وتهريبها وتصنيعها طلقاء بالفعل، في حين باتت السجون العراقية ومراكز التوقيف تمتلأ في غالبها بمتاجرين ومتعاطين.
ولايكاد يمر يوم دون أن تعلن فيه وزارة الداخلية أو فروعها في المحافظات العراقية الأخرى إضافة الى أقليم كردستان، عن القبض على متهمين بتجارة المخدرات وتعاطيها حتى بلغت نسبة المحكومين والموقوفين في السجون ومراكز التوقيف العراقية بقضايا المخدرات نحو 60% نسبة الى باقي القضايا، حسب رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق، حازم الرديني.
وأكثر أنواع المخدرات رواجا كما يؤكد مسؤولون أمنيون، هي مادة (الكريستال)التي يتراوح سعر الغرام الواحد منها بين 15 إلى 25 ألف دينار عراقي (11,5 إلى 19 دولار)، والـ(كيبتاغون)التي يصل سعر الحبة الواحدة منها إلى نحو دولارين، وغالبية متعاطيها هم من فئة الشباب بين 18 إلى 30 سنة.
ويقول مسؤولون بالداخلية، بأن هذين النوعين منتشران في المناطق الشعبية الفقيرة، وهنالك أنواع أخرى أعلى ثمناً مثل (الحشيشة والأفيون) وسواهما، يتعاطاها المقتدرون مالياً، ولكل نوع من الأنواع متخصصون في الاتجار بها ومناطق وأماكن معينة لترويجها.
وكان وزير الصحة صالح مهدي الحسناوي، قد أعلن في 8/12/2023، اتلاف وزارته ثمانية أطنان من المخدرات و58 مليون قرص مخدر و 31 ألف أمبولة مخدرة و تسعة آلف قنينة.
وبحسب المركز الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى، فان هذه الكمية كانت مخزونة منذ العام 2009 في دائرة الطب العدلي. وترجح مصادر في وزارة الداخلية أن تبلغ حصيلة الكميات المصادرة من المخدرات خلال سنة 2023، أكثر من مجموع الكميات التي تم اتلافها.
وفي اقليم كردستان اعلنت السلطات في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر، عن تفكيك عصابة دولية تتاجر بالمخدرات حاول أفرادها “بيع عشرات الكيلوغرامات في محافظة السليمانية”. وقال اللواء احمد الزركاني مدير عام شؤون المخدرات بوزارة الداخلية العراقية، خلال مؤتمر صحفي، أنه بالتنسيق مع مؤسسة أمن إقليم كردستان تم القاء القبض على ثلاثة تجار مخدرات بحوزتهم 51 كيلوغراماً من مادة الكريستال.فيما قال العقيد سلام عبد الخالق المتحدث الرسمي باسم أمن الإقليم، أنه “تم خلال العام الحالي ضبط نحو 300 كيلو غرام من المواد المخدرة في عموم المناطق”، مشيرا الى ان التنسيق بين الأجهزة الأمنية في الاقليم وبغداد بشأن المخدرات في أعلى مستوياته.
المشكلة الأخطر في البلاد
وزير الداخلية عبد الأمير الشمري، وصف خلال مؤتمر مكافحة المخدرات، الذي عقده مكتب التوصيات الدولية، في أربيل يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر2023، ظاهرة انتشار المخدرات في العراق بأنها آفة وهي “من أخطر المشكلات التي تهدد كيان الدولة العراقية”.
ودعا المسؤولين المعنيين بحفظ الأمن الداخلي إلى تكثيف اللقاءات والاجتماعات للتحاور معا من أجل وضع الحلول العاجلة لظاهرة المخدرات التي قال بأنها تستهدف الشباب في العراق بالدرجة الأساس.
وفي ذات المؤتمر، حذر رئيس وزراء حكومة أقليم كردستان مسرور بارزاني، من مخاطر المخدرات على المجتمع في الإقليم، وأكد بان معدلات الإتجار بها وتعاطيها آخذة بالإرتفاع.
وعن سبب انتشارها في إقليم كردستان قال البارزاني “المافيا والمتاجرين بالمخدرات يستغلون الموقع الجغرافي لكردستان لتهريبها إلى أماكن أخرى؛ ما أدى إلى زيادة عدد المدمنين في الإقليم”.
واتهم رئيس وزراء الإقليم، مجاميع مسلحة لم يسمها، بأنها جزء من شبكات الاتجار بالمخدرات، وأنها تستغل ثغرات أمنية في مناطق يتنازع الأقليم على ملكيتها مع حكومة المركز، وأكد حاجة الأقليم الى المساعدة اللوجستية والمشورة من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات، إضافة إلى تطوير قدرات القضاء والمحققين في الأقليم، ويعني بذلك في مجال مكافحة المخدرات.
وكان مجلس النواب العراقي قد شرع قانون المخدرات والمؤثرات العقلية رقم 50 لسنة 2017، ضم 51 مادة، اثر دخول العراق في معاهدات دولية عديدة لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية، ومع الإرتفاع الكبير في أنشطة العصابات الإجرامية المتخصصة بتهريب وترويج المخدرات في مختلف أنحاء البلاد، وحتى زراعة بعض انوعها.
المادة الثالثة منه، نصت على تأسيس هيئة تابعة لوزارة الصحة باسم الهيئة الوطنية العليا لشؤون المخدرات والمؤثرات العقلية، مهمتها وضع سياسة عامة لإستيراد أي نوع من المخدرات والمؤثرات العقلية والسلائف الكيمياوية وتصديرها.
وأيضاً وضع استراتيجية وطنية لمكافحة الإتجار غير المشروع بالمخدرات وسوء استعمال المؤثرات العقلية والسلائف الكيميائية، واتخاذ الإجراءات اللازمة لمكافحتها وفقاً للمنهج العلمي والإصلاحي والعلاجي للمدمنين.
وفرض القانون عقوبات تراوحت بين الحبس البسيط وصولا إلى الإعدام، بحق المروجين والمتاجرين والمتعاطين ومهربي المخدرات، وخصصت المادة 39 لمعالجة المدمنين، في مؤسسة صحية خاصة والزمتهم بمراجعة العيادات النفسية.
أما في أقليم كردستان الذي يخضع لإدارة شبه مستقلة، فقد أصدر البرلمان هناك، القانون رقم (1)لسنة 2020 قانون مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية في إقليم كردستان- العراق، وضم 50 مادة، فرض كذلك عقوبات تراوحت بين الحبس والاعدام بحق المتاجرين والمروجين والمتعاطين للمخدرات.

المحامي محمد ياسين صلاح، يقول بأن لديه تحفظات على قانون المخدرات العراقي لأن فيه ثغرات عديدة، وصدر بنحو متسرع، على حد قوله، إذ يشير إلى أن القانون فرق بين التجار والمروجين والناقلين في العقوبة، ويرى بأنه يتوجب مساواتها لأنهم مشتركون في ذات الجرم، وتترتب على ما يقومون به ذات النتائج مثل “ترويج المخدرات والتداعيات التي تنجم عن ذلك”.
ويضيف: “كما لايجوز أن يغفل القانون عن إنشاء مراكز توقيف وسجون خاصة بالمتهمين أو المحكومين بقضايا المخدرات، فهم الآن يوقفون أو يسجنون مع آخرين لاعلاقة لهم بالمخدرات، فيتورط السجناء بالتعاطي ويخرجون ليصبحوا أعضاء في عصابات المخدرات او مدمنين لها”، مشدداً على عزل المتهمين والمدانين بالمخدرات عن غيرهم حتى يتم الحد من ضررهم قدر الإمكان.
وكانت تقارير صحفية قد تحدثت عن وجود نقاش جاد في مجلس النواب العراقي لإجراء تعديلات على قانون المخدرات والمؤثرات العقلية رقم 50 لسنة 2017 ونقلت تصريحات عن عضو لجنة مكافحة المخدرات البرلمانية النائب ياسر الحسيني، في أيلول/سبتمبر2023 أن التعديلات ستتركز على تشديد بعض العقوبات لتصل إلى الإعدام.
ووضع مادة قانونية تمثل رسالة تطمين للمتعاطين بأنهم لن يتم تجريمهم حين يبدأون بتلقي العلاج، وأن بوسعهم العودة إلى حياتهم الطبيعية. ودعوة وزارة الداخلية لإنشاء سجون خاصة بالمتهمين بتجارة المخدرات أو عزلهم عن بقية المتهمين من أجل “تفادي انتشار آفة الإدمان والترويج لها” ولم يحدد عضو اللجنة عن الوقت الذي ستتم فيه قراءة التعديلات الجديدة على قانون المخدرات.
ويبدو أن سقف المواجهة الحكومية للمخدرات آخذ بالإرتفاع في العراق، خصوصاً بعد أن أفادت مصادر امنية، عن قرب الإعلان عن تشكيل جهاز لمكافحة المخدرات، على غرار جهاز مكافحة الإرهاب. وهذا يعد تماشياً مع ما تظهره عصابات المخدرات من قوة فعلية على الأرض، إذ أن بعضها مسلح بنحو احترافي، وتفرض بالقوة سطوتها على المناطق التي تنشط فيها ولا سيما المتخصصة بتهريب المخدرات.
وتسجل العديد من مناطق البلاد سواء في الجنوب أو الوسط او الشمال وبشكل مستمر مواجهات مسلحة بين الشرطة وتجار المخدرات. ففي 19 تشرين الأول/ اكتوبر، ذكرت مديرية شؤون المخدرات، إنها قتلت أحد أخطر تجّار المخدرات الملقب بـ“حناية”، في جانب الرصافة من بغداد، بعد قيامه بفتح النار على عناصر قوة المديرية التي كانت قد نصبت كمين للقبض عليه.
إجراءات متأخرة
لمواجهة تفشي المواد المخدرة في صفوف افراد الاجهزة الأمنية والتي تمثل خطر مضاعف، قررت هيئة الرأي بوزارة الداخلية، التي يرأسها الوزير عبد الأمير الشمري، في 16تشرين الثاني/2023، إلزام المتقدمين للحصول على إجازتي قيادة السيارة (السوق) وحمل السلاح، الخضوع لفحص المخدرات، وذلك بعد قرار كانت قد أصدرته الوزارة في مارس/آذار2023، بإجراء فحص طبي مفاجئ لمنتسبيها لغرض الكشف عن حالات تعاطي المخدرات بينهم.
البعض يرى بأن هذه الإجراءات مهمة، لأنها تشمل قائدي المركبات في الشوارع وحاملي الأسلحة وأيضاً المسؤولين عن حفظ الأمن الداخلي، بمعنى أنهم على تماس مباشر مع حياة الناس اليومية، لكنهم يرون في ذات الوقت بأنها متأخرة كثيراً، وتحتاج عملية مواجهة المخدرات إلى قرارات مواكبة من وزارات أخرى.
من بين هؤلاء، الباحث في الشأن الاجتماعي د. وعد سامي نوار، إذ يرى بأن ظاهرة المخدرات متفشية منذ سنوات في العراق، وامتلأت السجون بتجارها ومروجيها ومتعاطيها، وتزايدت اعداد المدمنين في مختلف أنحاء البلاد لدرجة انها وصلت الى المدارس، على حد تعبيره.
ويقول ان ذلك يتطلب القيام بحملة وطنية كبرى لمكافحة المخدرات “تبدأ بفرض رقابة صارمة على الحدود، ومتابعة مناطق تواجد الشباب حيث يركز المروجون نشاطهم مثل الكافيهات، وتنفيذ انشطة خاصة في المدارس والجامعات، مع تخصيص مراكز علاج وتأهيل للمدمنين في جميع المحافظات وبقدرة سريرية كافية، بدلاً من الزج بهم في السجون”.


