الكاتب: رشيد الخيون
احتفلت جريدة «الاتحاد» بعام تأسيسها الثَّاني والخمسين، عاقدةً منتداها السَّادس عشر بأبو ظبي(20 أكتوبر 2021)، عنوانه «التَّنمية الاقتصادية قاطرة الاستقرار والإسهام الحضاري». دلوت بدلوي متحدثاً عن الحضارة وأساس نشأتها، مع تأكيد أنه ليست هناك شعوب تولد متحضرة، وأخرى لا تليق بها الحِضارة، بل إنَّها متاحة للجميع، بشرط استغلال ثمرات الماء والنِّفط لأجل العُمران، صرفها على البلاد لا على التبشير بالعقائد!
إنَّها كارثة عندما لا يجد المواطن الدّواء والغذاء، بينما نِفطه وماؤه يُهدى إلى خارج الحدود، مِن قِبل مَن يرى الدّولة الوطنية كافرة، فيسعى إلى خلافة أو ولاية وهميتين، أو ترك التنمية حتَّى يُشيد كياناً قومياً وحدوياً من المحيط إلى الخليج، فعادت بلدانهم، كأن لم يجر فيها الماء ولم تَختزن النِّفط!
لا نجد في القواميس أثراً لمفردة «حضارة»، بل نجد «الحاضرة خلاف البادية»(الجوهري، الصَّحاح)، وقريباً مِن الموصل توجد آثار مملكة، سادت ثم بادت، عُرفت بـ«الحضر». فعندما يُقال سُكان الحضر يُفهم عكس البدو، مع أنَّ البداوة لم تخلُ مِن روحانيات وأفكار إنسانيَّة. «فقلتُ وفي البداوة ما يُزين/ البُداة وفي الحضارةِ ما يُشيدُ»(الجواهري، الدِّيوان). يمكن الجمع بينهما، في تشييد الحِضارة التي غايتها عُمران، لا تعيقه البداوة، إذا صُرفت نفوط الصَّحاري على البلدان والإنسان، لا على الأيديولوجيات.
نلاحظ في مصطلح «الحِضارة» التباساً، فهو يطلق على الدَّولة المتحضرة، وأوروبا وأميركا في المقدمة، لكنّ حروباً بربرية شنتها الدول المتحضرة خارج حدودها؟! وكم يُشار إلى باريس، بعد ثورتها(1789)، بعاصمة الأنوار، وهذا صحيح، لكن بماذا نفُسر: «لا يحسن عند الفرنساوية استخدام جارية سوداء في الطبخ ونحوه، لِما ركز في أذهانهم أن السُّود عارون مِن النَّظافة»(الطَّهطاوي، تخليص الإبريز)، بينما مَن أشير إليهم بالبداوة أخذوا الفقه والعلم من سودٍ، ومنهم مَن ملك بلدانهم بلا حرج!
جعل ابن خلدون(ت: 808هجريَّة) الحضارة مقرونةً بالعُمران، مظاهره فيض المال والرَّفاه. قال: «الحِضارة تتفاوت بتفاوت العُمران، فمتى كان العُمران أكثر كانت الحضارة أكمل»(ديوان المبتدأ والخبر). لا تبني الدُّولة الحضارة، حسب ابن خلدون، إلا بالاتصال بدولة متحضرة. وهذا أكيد، إلا أنه اليوم لا يتحقق إلا بسلام عالمي، فقديماً كان يحصل بالغزو والاحتواء، ولو قرأنا تاريخ الحِضارات لوجدنا الحروب سبب أفولها. هذا، والحضارة حسب ابن خلدون، متى بلغت غاية العُمران، صارت «مؤذنة بالفساد»! بسبب «التَّفنن في التَّرف»(المصدر نفسه).
لم يبتعد ألبرت أشفيستر(ت: 1965)، في «فلسفة الحضارة»(1923) عمّا ذهب إليه ابن خلدون، في أن التَّرف يُفسد الحضارة، لاستخدام الأدوات الحديثة، التي صار النَّاس عبيداً لها، وأساس الحضارة عنده «أخلاقي»(فلسفة الحضارة).
ليس هناك شعبٌ، مِن بدو وحضر، فاقداً للأخلاق، التي جعلها أشفيستر أُسَ الحِضارة، غير أنّ الحِضارة، التي تُشيد اليوم فوق الرمال والأملاح، أُسها العقل السِّياسي والاقتصادي، في توجيه الثروات نحو إعمار البلاد، عبر خططٍ خمسينيةٍ ليست خمسيةً كما جرت العادة. لا تجنيد الطَّاقات في العقائد والشِّعارات المُضَلِلة!
ستكون الثَّروة عاملَ خراب، إذا لم يصاحبها ترشيد اقتصاد العقل، الذي لا يتوقف عن التجديد المستمر، فالماء قد يجف والنِّفط ينضب، ولابد مِن الاستثمار بالإنسان نفسه، وإلا سيكون الاقتصاد والحضارة، حسب ابن خلدون، نهاية الدولة والعُمران، والأمثلة كثيرة مِن زمننا الرَّاهن. نرى اليوم، الرَّابط ما بين الحِضارة والبداوة ثروة النِّفط، بشرط توجيه عوائده للعُمران لا للخراب!