م. علي عبيس حسين علي المعموري
المقدمة:
الحمد لله الذي علمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا إلى حفظ ما أنتجته أقلام وقرائح علمائنا الأقدمين ، صيانة من التلف و الضياع والهدر ، و تجميعه وضع كنوزه في خزائن ومكتبات بأيادي علماء وفقهاء أمناء يحافظون عليه من التلف المادي و المعنوي ، و من أيدي العابثين به :
أما بعد: فإن التراث يمثل الصورة الحضارية للزمن الذي أنشئ فيه ، و هو يحتاج من جيل اليوم إلى من يصونه و يرعاه ، من أجل إحيائه و نشره ، و الاستناد إليه في إعادة مكانة هذه الأمة ، لنسير على هديه و نور نبراسه ، و نخطو على هدي خطاأسلافنا ، كما أن الوقوف على هذا التراث يوقظ ذوي الهمم و يشحذ الخواطر ، للعمل الجاد ، و الذي يقارن بين حالنا و حالهم ، يجد الفرق الكبير ، بين وسائلهم و وسائلنا ، و بين مستواهم و مستوانا ، و بين إنتاجهم و إنتاجنا ، حتى ما خلفوه لنا أصبحنا عاجزين عن حمايته و صيانته .
والتجليد من الفنون التي ازدهرت بفضل المحافظة على صيانة وترميم (مخطوطات المصاحف)بداية تجليد المخطوطات الذي ازدهر على يد المسلمين على وجه الخصوص لعنايتهم الفائقة بغلاف المصحف الشريف، سواء من حيث الصنعة والزخرفة أو الرسم الكتابي، مما حدا بالأوروبيين إلى تقليده لمهارة المسلمين في هذا الفن , ومن أبرز معالم التجليد الإسلامي التي استخدمها الأوروبيون في عصر النهضة الأوروبية لسان الغلاف الذي استعمل لحفظ أطراف المصحف الخارجية من جهة، ولتعيين مواضع الوقوف بعد القراءة من جهة أخرى, بلغ فن تجليد المخطوطات عند المسلمين درجة كبيرة من الرقي والتقدم في مضمار الفن, وفن التجليد يعد من الكنوز التي ورثناها من القدماء ، حيث برع العرب منذ قديم الزمان بفن التجليد .
وعلى الرغم من الحاضر المتميز لمدينة الحلة إلا أن تراث مدينة الحلة جزء من الحضارة العربية الإسلامية بحيث يُعدُّ من أهم التراث في العالم لما فيها من الآثار البابلية والنمرود والحوزة العلمية والمقامات والمزارات مما جعل من مدينة الحلة تتبنى هذا التراث والمحافظة عليه .
ويعيش الحليون اليوم حياة عصرية بنكهة الأصالة الخالصة، لأنهم يجيدون التمسك بالتقاليد والعادات المتوارثة جيلاً بعد جيل للوقوف في وجه العولمة، التي غزت العالم من دون استئذان، وغيرت شكل كثير من الدول، وأثرت في سلوك وعادات كثير من شعوب العالم دون استثناء.
في الحلة تجربة فريده ربما كانت الوحيدة من نوعها في الحلة إذ كان الحاج خليل وابنه اسماعيل من القلائل الذين قاوموا فكرة أن يتحولوا إلى ترس في ماكينة تسحق وتبتلع معها لمسات الفن والجمال التي تنفرد بها الحرف اليدوية , واستطاع بعد تجربة طويلة ومعاناة أن ينجو بمهنته من الاندثار , وكان طوق النجاة أن يحولها إلى مجرد مهنة وحرفة لا تستطيع الصمود أمام الحرفة أو مواجهة الآلة والأنترنت, ورغم الصعوبات التي تواجهها المهنة في ظل التقدم الحضاري ظلت صامدة .
وتعرضت مهنة التجليد في العراق إلى تراجعٍ كبير بل أصبحت مهددةً بالانقراض لكونها مهنة يدوية قديمة أمام منافسة ألات التجليد الحديثة وعزف الكثير عن هذه المهنة التي توارثها المجلدون جيلاً بعد جيل .
والمهنة تعتمد على الأسلوب اليدوي التقليدي الذي يُعنى بحفظ الكتب من التآكل والتمزيق وإضافة اللمسات الجمالية والفنية البارعة اليها, لأن المثقفين يبحثون دائما على ما يخلد كتبهم.
لكن تدريجيا ومع التوسع في افتتاح المطابع وازدياد انتشارها في طباعة الكتب سيطرت الآلة على مهنة التجليد , ولم يعد بإمكان التجليد اليدوي مواجهة التزايد الكبير في الطلب أو الصمود أمام جودة التجليد الآلي إذ توجه معظم المجلدين إلى المصانع الآلية وحافظ عدد قليل من المجلدين على الصمود وأصبحت هذه الأنامل البارعة تحول الكتب إلى تحفة فنية رائعة.
كانت الكتب القديمة ولاسيما الدينية تجلد بالحرير المطلي بالذهب أو الفضة وتزين بالحجارة الكريمة وترسم على الغلاف صور تنين أو نسر برأسين وكان الغلاف سميكا بحيث يحفظ الكتاب من الحرارة والرطوبة .
وللوقوف على واقع هذه المهنة بالحلة والتي ساهمت في حفظ التراث الحلي من كتب ومخطوطات ووثائق رسمية للدوائر الحكومية, والمكتبات العامة والخاصة و والرسائل الجامعية , ولم يقتصر التجليد على الكتب وإنما كانت تجلد الرقي والأدعية والطلسمات التي يكتبها الملالي.
قادنا البحث عن مهنة لصيقة بالكتاب والثقافة إلى شارع الإمام علي عليه السلام وان هذه المهنة تتعلق بالثقافة لكونها تتعامل مع مختلف الكتب وأن أغلب الذين امتهنوا هذه المهنة كانوا من المثقفين والقراء الجيدين منها العائلة المباركة أسرة آل القيم (أسرة إسماعيل القيم أنموذجا ) وحفاظها على التراث الحلي من سنة 1968-2023م, ولهذه الأسرة من الباع الطويلة في الحفاظ على التراث الحلي من خلال عملهم الدؤوب في مهنة تجليد الكتب وإعادة رونقها لتصبح بشكلها الجديد الجميل بعدما بَلِيَتْ .
أما محاور الكتاب فجاءت على فصلين اثنين:
تناول الفصل الأول: آسمَهُ ونسبه وحياته ونشأته ولقبه وكناه وصفاته ,والده أخوته وأولاده , وآثاره , عمله , وتكريمه , شراء الجلود و المخطوطات.
والفصل الثاني : تناول التجليد لغة واصطلاحا الآهتمام بالكتب والمكتبات الأبداع في نسخ المخطوطات في مدينة الحلة , الحلة في القرن السابع والثامن الهجري, أراء العلماء والباحثين في التجليد الحلي و فن التجليد و أبرز أسماء المجلدين الذين اشتهروا في مجال فن التجليد.
ونسأل الله أن يتقبل منا ما قدمناه , وأن يكون هذا العمل في خدمة تراثنا العربي الإسلامي , ولله الحمد.
الديباجة:
بما أنَّ محور البحث عن الحاج إسماعيل خليل القيم باعتباره مجلد كتب قديمًا وأعرفه منذ أكثر من ثلاثة عقود لذا يجب الإحاطة بكل ما يَخُصّهُ وذويه وألخصها بما يلي :
أولاً : هو مجلد كتب منذ عام 1968 حيث كان يمارس مهنة التجليد مع المرحوم والده الحاج خليل كريم حسن القيم منذ الشباب وله صور كثيرة توثق ذلك .
ثانياً : إنّه معروف على مستوى محافظة بابل إذ لامست كفّاه منذ سنة 1988 م إلى يومنا هذا آلاف السجلات التابعة للدوائر كالتسجيل العقاري والمحاكم والجيش ومراكز الشرطة وكتب وسجلات الكليات والأطاريح الجامعية والمدارس بكل مراحلها وكتب المساجد ليعيد تجليدها بحُلّتها الجديدة فهو يُصلح ما أفسد الدهرُ منها وما عملته ظروف الحياة والتقادم عليها وبسبب كثرة استعمالها .
ثالثاً : هو من عائلة متخصصة بالتجليد وأنّ هذه المهنة متوارثة من الآباء إلى الأبناء إذ كان : والده المرحوم الحاج خليل القيم أقدم مجلد كتب في مدينة الحلة .
وأضيف إلى ذلك الروح الوطنية التي يحملها والده الحاج خليل القيم حيث شارك في عام 1948م بالحرب ضد الصهيونية في فلسطين ولمدة سنة ونصف وهذا من دواعي الفخر والاعتزاز أن أذكره وأوثقه بصور ضوئية.
*إسماعيل خليل القيم مجلد كتب قديم ويمارس مهنة التجليد ولده الأكبر محمد .
رابعاً : إن إسماعيل القيم ينتمي لأسرة آل القيم التي اشتهر بها أجداده بنظم الشعر والخطابة منذ خمسة قرون وأبرزهم الشاعر الحاج حسن القيم الذي ينعى بشعره عميد المنبر الحسيني المرحوم الدكتور الشيخ أحمد الوائلي وله تسجيلات توثق ذلك, والملا محمد القيم والد الشاعر حسن القيم كان شاعرًا مشهورًا والحاج علي القيم الأخ الأكبر للأديب حسن القيم كان خطيباً وهذا موثّق بالمصادر التي يذكرها أعلام الأدب والمؤرخون في القرنين التاسع عشر والعشرين.
خامساً :إنَّ ولده الأكبر محمد إسماعيل كان يعمل في مطار النجف الدولي للأعوام 2009 ـــ 2011م .
سادساً : ولده الأصغر علي إسماعيل لديه حِس وطني ويحمل جانبًا إنسانيًا تجاه إخوته رجال الحشد الشعبي الذين لَبّوا نداء المرجعية الرشيدة إذ كان يشارك بالدعم اللوجستي وإيصال المساعدات الإنسانية لهم وخاصةً المناطق البعيدة المحفوفة بخطر الدو اعش وله صور كثيرة توثّق ذلك .
سابعاً : إن إسماعيل خليل القيم كان بارعاً بكتابة الخواطر المهذبة وهي نثر مرسل ولكنها خاصة به وبالمقربين له كان قد جمعها بديوان سمّاه ( تنتهي أدوار الحياة وتبقى في الخواطرِ ذكريات ) .
وله كتاب أدعية قصيرة كان قد جمعها من الكتب المعتبرة عن آل بيت النبي الأطهار عنوانه ( دعاء الأبرار ) وهو خاص به لم يقم بنشره.
وله مؤلف عنوانه (هذا ما حفظته من صفحات الفيسبوك) لم ينشر بعد. ( )
الفصل الأول:
أولاً: اسمه ونسبه ولقبه :
كانت مدينة الحلة وما تزال المدينة الأهم والأكثر بين المدن العراقية والتي كانت عاصمة علمية دينية وكعبة القصاد من أهل العلم بعد أن انتقلت لها الحوزة العلمية التي انجبت الشعراء والعلماء والأدباء والفقهاء الذين ساهموا بإسهامات كبيرة من أجل ديمومة الحركة العلمية والأدبية وبقاء مدينة الحلة منارة للعلم ومدرسة ينهل منها طالبو المعرفة والعلم والأدب والفقه وفي مركز هذه المدينة ولد الحاج إسماعيل( ) خليل كريم الشيخ حسن( ) بن الملا محمد بن يوسف بن إبراهيم بن إسماعيل بن سلمان بن عبد المهدي المعروف بـ (القيِّم) ( ) الحلي ( ) وتعود هذه الأسرة بنسبها إلى بني أسد فحملت هذه الأسرة الكريمة لقب القيم فصار اللقب لذريتهم وأحفادهم , ومن خلال التمعن في التسلسل والنسب للحاج اسماعيل نجد عمود النسب يضم شعراء مشهورين فضلا عن الإشراف على المزارات الشريفة في الحلة الأمر الذي يؤكد على وجود علاقة الحسب والنسب في انصهار شخصيته التي تتألف من عنصري الوراثة والبيئة فكان جده الثاني حسن القيم شاعراً و جده الثالث محمد شاعرا أيضا أشار إليه محسن الأمين بقوله : ” شاعر خفيف الروح”. ( )
وهو أكبر أولاد الحاج خليل .
يرجع النسب المبارك للحاج إسماعيل القيم إلى بني أسد ناصري الإمام الحسين عليه السلام حماة الشريعة والإسلام , وهو من بيت علم رفيع المعاد وأبوه إلى الجد الرابع والخامس علماء وفقهاء وفيهم الشاعر الشيخ حسن القيم وأبيه وغيرهم .
ثانياً: مولده ونشأته
في أسرة عريقة بالعلم والأدب والتقوى , ولد إسماعيل القيم في مدينة الحلة / محلة المهدية في يوم الجمعة المصادف17/3/1950م , زقاق الحاج إبرهيم هبة وحسين الطريحي وهو من أشهر أزقتها , وينحدر من أسرة ملتزمة دينيا عرفت بالعلم والتقوى والصلاح , التحق بالمدرسة الابتدائية (فيصل الثاني) ( ) (التي سميت في ما بعد الوثبة) مجاور مرقد ابن نما الحلي المندرسة حاليًا مقابل باب المتنزه وعند زيارتنا للمكان وجدنا في المكان محطة كهرباء , تم تدريسه في مادة اللغة العربية في مدرسة الوثبة عام ١٩٥٩م في الصف الرابع الابتدائي من قبل العلامة الشيخ يوسف كركوش مؤلف كتاب تاريخ الحلة في مادة اللغة العربية وكان قبل الدرس يضع عمامته على شِمّاعة للملابس وراء باب الصف َ, وتم نقل إسماعيل القيم إلى مدرسة المحقق في الصف السادس( ) الابتدائي وأكمل الدراسة المتوسطة في متوسطة الحلة الواقعة في نهاية شارع الامام علي عليه السلام في ساحة سعيد الأمين سابقًا( ) والدراسة الإعدادية( ) في إعدادية الحلة في منطقة القاضية( ) وتم قبوله في الجامعة المستنصرية /كلية الإدارة والاقتصاد في الموصل للمرحلة الأولى للدراسة المسائية فقط ( )ونقل الى الجامعة المستنصرية / بغداد في المرحلة الثانية وتخرج من قسم المحاسبة وإدارة الأعمال عام 1974/ -1975 م ( ) وكانت مُدَّة الدراسة خمس سنوات, وقال الحاج القيم “” كان الدكتور عبد المجيد النافوسي أستاذي في مادة المحاسبة عام ١٩٧١م, وبنفس الوقت كان هو عميد الكلية وتدريسيًا ودرسني الدكتور إبراهيم كبة في مادة تاريخ الفكر الاقتصادي / في الصف الثاني والمعروف عنه كان يشغل منصب وزير الاقتصاد في زمن الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم والدكتور كاظم حبيب مفكر اقتصادي مشهور كان أستاذي في مادة الاقتصاد /الصف الثالث , والدكتور محمد جواد العبوسي في مادة المالية العامة / الصف الثالث وكان يشغل منصب وزير المالية في الستينيات والدكتور عبد الرحمن حبيب في مادة الإدارة /الصف الرابع وكان يشغل منصب وزير الاقتصاد في الستينيات”( ) وكل هؤلاء الأساتذة كان دوامهم في الدارسات المسائية في الجامعة المستنصرية آنذاك.
والتحقَ للخدمة العسكرية الإلزامية في قاعدة الوحدة الجوية في الشعيبة /محافظة البصرة للأعوام ١٩٧٥م _ ١٩٧٧ م وتم تكليفه لفتح مركز لمحو الأمية ليكون معلماً فيها للجنود والمراتب الأميّين هناك طيلة الخدمة داخل القاعدة للأجنحة والأسراب وسرية حراسة القاعدة والرَصد وفي نهاية الخدمة تم تكريمة من قبل آمر القاعدة والضباط ب( سيت أقلام حبر شيفرز) قبل تسريحه لجهودة الصادقة التي قدمها في التعليم ( ) ثم عمل محاسباً في المعهد الفني /بابل عام 1977-1979م, ثم اضطر للاستقالة لأسباب شخصية.
ثم عمل محاسبا في شركة التأمين الوطنية /فرع بابل سنة 1979م( )وأحيل على التقاعد عام 1992م , كان ملازماً ومتواصلاً للعمل في مهنة التجليد مع والده المرحوم الحاج خليل القيم منذ سنة 1968م ومارسها حتى أتقنها, وإضافة إلى عمله الوظيفي كان يساعد والده في المهنة ومارس مهنة تجليد الكتب مع والده في محله( ) الكائن في شارع الإمام علي ()( ) ثم انتقل إلى بداية شارع أبي القاسم وأخيراً في منطقة باب الحسين خلف تجنيد الحلة وكان ملازماً لوالده في العمل ويَتَسوّق مستلزمات التجليد لوالده من بغداد الكارتون الكبير والورق البطال الكبير والمشمع أما ًالميش والسختيان وهي نوع من الجلود الطبيعية فهي من الموصل من معمل توفيق وصدّيق العارف والخيوط الحريرية الخاصة لخياطة الشيرازة من البصرة , وباشر العمل فيها وحدَهُ في محله الخاص به سنة 1989م ومكان محله في عمارة أحمد النعيمي ثم انتقل إلى شارع الإمام علي في عمارة هادي العكام أيضا في شارع الأمام علي
وإلى يومنا هذا يمارس عمله بنفس المكان وكما قال المثل: ( المكان بالمكين ) وبسبب حبه للعمل وإخلاصه فيه وإتقانه له أصبحت شهرته واسعة لدى المدارس والدوائر والكليات ( )والوحدات العسكرية ومراكز الشرطة وبين المثقفين وقرّاء الكتب وكما يقول : (( التجليد يطيل صُحبَة القارئ بالكتاب )) .
ونشأ الحاج إسماعيل برعاية والده الذي أعطى له جلّ اهتمامه وغرس في مداركه حب التعلم, واجتهد بجل قواه في توسيع معارفه وتثقيف مداركه حتى صار قادراً على تسيير أموره بنفسه, ولأسره القيم دور كبير في الرعاية لأبنائها وكانت الأسرة هي أساس الحياة الاجتماعية وتنشا فيها الفضائل الاجتماعية ( ) فقد كان لأسرة الحاج إسماعيل القيم الأثر الكبير في صقل مواهبه الشعرية والأدبية ,أـما أمهُ فهي من عشيرة خفاجة .