مروان ياسين الدليمي
ما الذي سيكون عليه موقف طالب اللجوء في الغرب،إذا ما كان «مسلما»ليثبت مصداقيته في التواصل مع من يختلف عنه دينيا وثقافيا،طالما أمسى الشك بمصداقيته من قبل الآخر مسبقا،وليس من السهل زحزحته أو تغييره؟ تفرض هذه التجربة أسئلة صادمة لروافد ثقافته التي تعوَّد على أن لا يضعها تحت المساءلة،باعتبارها شأنا طبيعيا،مثل الهواء والماء والشمس.
رواية «+15» للكاتب العراقي المغترب في فنلندا ياسين غالب، تتصدى في بنية خطابها الفني لمسألة اغتراب اللاجئ المسلم،وما يواجهه من تحديات تضع كينونته الإنسانية على المحك، خاصة أن ثقافته بكل سطوتها، تشكلت في بيئة تتقاطع معطياتها، في كثير من المواضع القيمية، أخلاقيا واجتماعيا عن بيئة اللجوء.
مشهدية سينمائية
يتقدم السرد في رواية «+ 15 «مستعينا بلغة ليِّنة تملك قوتها الإيحائية في استبطان دواخل الشخصيات،ما يجعلها تمسك بالصورة والصوت معا،كما لو أننا نتابع تفاصيل مشهد سينمائي واقعي،التقطته عدسة كاميرا بالغة الحساسية:»اقتربتُ من النافذة،وأخرجت يدي للخارج،لمستُ أولى قطرات المطر المتساقطة،أفركُها بإصبعي،كصبي يكتشف مَنيَّهُ.. الماءُ هو الماء…شاهدت الباص يمر في الشارع العام رسَم قوسين مائيين جانبيين في الهواء،عندما مرَّ ببركةِ ماءٍ صغيرة كوَّنتها قطرات المطر،كانت قد تجمعت من الليلة الماضية،مع صوت تشششش فعلت بعض السيارات».
سياق الزمن
يتوزع المتن الحكائي على ستة فصول،يتحرر فيها سياق الزمن السردي من مساره الأفقي إلى حركة دائرية،لينتج شكلا جماليا فضفاضا،مكَّن المؤلف من تقطيع الزمن إلى فصول،بما أتاح له تتبع قصص عدد من طالبي اللجوء، الذين عبروا من تركيا إلى اليونان ومن ثم إلى النمسا وألمانيا والنرويج وفنلندا عام 2015. فقد حاول سرمد اللاجئ العراقي الذي عمل صحافيا في بلده قبل أن يهرب منه،الحفاظ على شغفه بالكتابة أثناء وجوده في»الكمب» فما كان منه إلاّ أن يصغي لقصص اللاجئين،لتكون مادة روايته المقبلة،مبتدأ بزملائه العراقيين الثلاثة الذين يشاطرونه الغرفة رقم»155» سعد،لطيف، مروان،إضافة إلى خامسهم اللاجئ الأفغاني أمير.
ما بعد القص
بنية النص قائمة على تقنيات سرد ما بعد القص»الميتافكشن»حيث تتشكل الرواية من نصٍ أوَّل يضم في داخله نصَّا ثانيا،وهذا يعني أننا أمام مؤلفَين، الأول:غالب ياسين المؤلف الحقيقي للرواية،والثاني: سرمد الطاهر المؤلف الافتراضي للنص الثاني داخل النص الأول،بهذه الحبكة سنقف عند بنية سردية مركبة من طبقات يتناوب فيها على سرد الأحداث إلى جانب المؤلف الحقيقي والافتراضي، الشخصيات الرئيسية «لطيف،مروان،سعد،ليلى، أمير».ويشكل سرمد لوحده شخصية ثنائية من حيث الدور السردي الذي يلعبه،فبالإضافة إلى كونه المؤلف الضمني/السارد للأحداث في نَّص الرواية الثاني،فهو يمثل شخصية محورية في نَص الرواية الأول.
محنة الاغتراب
ابتداء من أول سطور الصفحة الأولى في الفصل الأول سنقف أمام شخصية لطيف الذي كان في المرحلة الأخيرة من دراسته للطب،قبل أن يغادر العراق،ليعبِّر عمَّا يدور في داخله،كاشفا عن إشكالية علاقته الاغترابية مع الزمكانية،بينما يكون جالسا في المترو صباحا،قاصدا الوصول إلى مكان عمله في العاصمة الفنلندية هلسنكي.فبدت حالته النفسية على درجة عالية من التوتر،تعكس حالة غضب شديد تسيطر عليه،إزاء ما يصدر من ردود أفعال لامبالاية من قبل ركاب المترو المنطلق بسرعة كبيرة،كما لو أنها إيحاء بسرعة جريان الزمن الخارجي،ومعادل موضوعي لبطء حركته داخل شخصية سرمد:»لِمَ تتباعدون عنّي؟ أنا لست خطرا،أنا أضعف من أن أؤذي فراشة،أنا هولوغرام «.
تعيش الشخصية المسلمة اللاجئة في أوروبا أزمة حقيقية مع ذاتها،تضعها أمام مفترق طرق،إما أن تختار القطيعة مع الآخر والانزواء إلى الداخل،أو أن تطَوي الماضي بمحمولاته وقداسته وتنخراط بحاضر يتقاطع مع الماضي،وقد شكلت هذه الفكرة متن خطاب الرواية
فانتازيا سردية
بناء السرد قائم على تعددية الأصوات الساردة بصيغة ضمير المتكلم، اعتمادا على الشخصيات الست الرئيسية «لطيف،سعد، أمير الأفغاني، مروان، ليلى، سرمد»وكل فصل من الفصول الستة تنفرد فيه إحداها،لتسرد من وجهة نظرها أحداثا مرت بها في سفر رحلة اللجوء،والفصل السادس والأخير يتولى سرمد المؤلف الضمني، سرد حكايته، باعتبارها حكاية الآخرين وعنهم في آن،بذلك تكتمل دائرة السرد.كما أن هناك مساحة سردية لشخصيات ثانوية،مثل فيصل الكويتي،هانو الرجل الفنلدني العجوز وحِصَانيه «تيو وورها».
وبنقلة فانتازية يعمد المؤلف الضمني إلى أن يشارك الحصانين في لعبة السرد نيابة عن صاحبهما العجوز من بعد أن يموت في دار المسنين،وكان لطيف يتولى رعايته متطوعا،ليسرد الحصانان ماشهده العجوز مع عائلته من احداث اثناء الحرب العالمية الثانية عندما كان طفلا،وعلى لسانهما تتعرى جرائم مخيفة ارتكبها الجيش السوفييتي في فنلندا بحق المدنيين، حتى أنهم أوشكوا على طبخ العجوز هانو عندما كان طفلا لسد جوعهم.
هذه النقلة السردية الفانتازية في بنية النص الضمني تستمد منطقية حضورها من تعاطي لطيف للحشيش السويدي،فتنفلت ذاكرته من أسرها،لتنطلق خيالاته حرّة من قيود المنطق، فتختلط الوقائع بما هو متخيل،ولنقف أمام مقاربة فنية تفضح وحشية الحرب،سواء في فنلندا تحت سلطة الجيش الأحمر السوفييتي،أو في مدينة الفلوجة العراقية التي جاء منها لطيف هاربا بعد أن سيطر عليها تنظيم «داعش».
دائرية الزمن السردي
يتحرك الزمن السردي متنقلا بين مستويات زمنية متراكبة ومتداخلة أحيانا، فينسل منها الحاضر إلى الماضي،ومن ثم يعود بنا السرد إلى الزمن الحاضر في حركة متوالية سريعة لا تتوقف،كما لو أننا نتابع تقطيعا مونتاجيا سينمائيا،يتدفق بسرعة وحيوية،فالسرد يأتي ضمن مسار دائري،قوامه مجموعة أصوات تتناوب على نسجه،وتتسع هذه الدائرة لتشمل حتى الحصانين تيو وورها،وعلى ذلك فإن المؤلف قد وسّع من فضاء السرد ليجنح إلى بنية فانتازية، ليكون لهذه البنية التخييلية بكل جنوحها دور في صياغة المبنى الدلالي للسرد.
أزمة الشخصيات
تعيش الشخصية المسلمة اللاجئة في أوروبا أزمة حقيقية مع ذاتها،تضعها أمام مفترق طرق،إما أن تختار القطيعة مع الآخر والانزواء إلى الداخل،أو أن تطَوي الماضي بمحمولاته وقداسته وتنخراط بحاضر يتقاطع مع الماضي،وقد شكلت هذه الفكرة متن خطاب الرواية، وتم التعبير عنها بشكل صارخ في شخصية»مروان»الذي لم يتردد في أن يبيع جسده لنساء مسنات ومثليين،ما أن وطأت قدماه مدينة هلسنكي،فالمهم بالنسبة له أن لا يعود إلى بغداد،وأن يقدم قصة قوية يقنع بها اللجنة بمصداقية خوفه على حياته من خطر الاستهداف بالقتل،إذا ما تم رفض طلب لجوئه وأُعيدَ إلى بلده،ومثله أيضا «ليلى»المتزوجة من»أكثم»إذ لا تتردد في أن تقيم علاقة عاطفية مع الباحث الاجتماعي الفنلندي»فيلبي»لأجل أن تحصل على الإقامة،مع انها تزوجت عن حب،رغم فارق المستوى التعليمي بينهما،فهي تحمل شهادة بكالوريوس من كلية الآداب وتكتب القصة والشعر،بينما زوجها لا يحمل شهادة جامعية،فتتعرض علاقتها في مجتمع اللجوء إلى هزات قوية،ولأسباب تافهة،وتكتشف عبر علاقتها مع فيلبي معنى الحب ومعنى أن ترتبط برجل مدى الحياة،فتستيقظ الأنثى المسحوقة بفحولة وشهوانية الرجل في داخلها،وتدرك أنها ليست أكثر من موضوع جنسي للزوج ساعة يكون سعيدا أو تعيسا،ولانَّ الغرب يدعم المرأة في حقوقها،تبدأ تمرينها على التمرد.
نهايات بائسة
العديد من اللاجئين يفشل في العثورعلى وسائل مشروعة تدعم بقاءه في بلد اللجوء،فينتهي إلى نهايات بائسة مثلا «شياو»الكردي يتحول إلى بائع مخدرات،ومهاجر أفغاني يحرق نفسه داخل غرفته في»الكمب»ويكون الانتحار أيضا خيار العراقي»لطيف»،ولم يكن مصير»سرمد» أفضل حالا من بقية الشخصيات رغم أنه أكبرهم سنا وأكثرهم ثقافة ولكن مقتل شقيقه الأصغر برصاص القوات الأمنية العراقية أثناء مشاركته في التظاهرات، يدفعه إلى اتخاذ قرار سريع بالعودة إلى العراق،خاصة بعد أن طاله اليأس من الحصول على الإقامة،ورغم أن بطاقة الإقامة تصله بعد قرار الرجوع، إلا أن نهاية الرواية تبقى مفتوحة، فلا نعرف إن كان سيعود أم سيبقى؟
الجسد هنا والروح هناك
أزمة الشخصيات الرئيسة تكمن في أن أجسادهم فقط تعيش في بلد اللجوء، بينما أرواحهم تقيم هناك، في الصحارى التي جاؤوا منها،العراق وأفغانستان والكويت(فيصل كويتي من شريحة البدون)ورغم أن أوطانهم ضاقت بهم،وحاصرتهم بالخوف والموت وانعدام الأمل،إلاَّ أنها مازالت تفرض سطوتها على مشاعرهم وأفكارهم وأنماط عيشهم.ولا تنتهي رحلة شقاء الشخصيات حتى بعد أن يصل بها المطاف إلى الملاذ الآمن،بل تتضاعف مشاعر ارتباطهم العاطفي بالمكان الذي هربوا منه،وتنمو في الروح لتصبح هاجسا يلازمهم،كلما هربوا منها،حتى روائح الأشياء من ثياب وتراب وحقول وأزهار تبقى عالقة في الذاكرة،فرائحة الحشيشة التي يتعاطاها أمير تذكره برائحة عظام أجداده في أفغانستان. ويبقى مشتتا بين إحساسه بضياع كرامته ورجولته عند عجوز فنلندية،تستغل حاجته للمال والأمان والدفء فتغتصبه،فما بين بحثه عن أخبار تطمئنه على شقيقه الأصغر بعد أن اعتقلته عناصر طالبان،وخشيته من أن يبيعونه لأحد زعماء القبائل ليستمتع به،لا نجد فرقا بين مصيره ومصير شقيقه لأن كلاهما مغتصب.والغربة هنا مثلما هي هناك،وإذا ما كانت في الأوطان أشد قسوة، فالاندماج أيضا ليس هيِّناً،ولن يتحقق بمجرد أن يقرر اللاجئ،إنما يحتاج إلى مكاشفةِ ذاته لذاته لتنهار الحواجز التي تعزلها عن نفسه وعن الآخر،وهذا ما بدت عليه شخصية «لطيف»عندما انخرط في العمل التطوعي في دار رعاية المسنين لمدة عام كامل،ومع ذلك كان يشعر باغتراب حاد ناجم عن انزواء الآخرين في عوالمهم الذاتية،وما كان يلمحه من مشاعر الارتياب على وجوه السكان الأصليين تجاه المهاجرين خاصة القادمين من الشرق،ليكتشف أن الكثير من الغربيين لا فرق بينهم وبين الشرقيين،فهم أيضا لديهم قناعات متوارثة يغلب عليها اللامنطق،تجعلهم يدورون في مكان واحد مثل الشرقيين.
يأتي عنوان الرواية»+15 «بمثابة تحذير لمن هم دون هذا السن بان يتجنبوا قراءتها،لانها اقتربت كثيرا من عوالم المثليين،ولامست في لغتها جوانب من أسرار حياتهم الجنسية.
٭ كاتب عراقي