بقلم/ د. برهم صالح
مرّت مئة عام على العراق المُعاصر (1921- 2021)، حافلةٌ بالمُنعطفات التاريخية، إذ شهدت مراحله التأسيسية بواكير الحركات الوطنية الحرة، وأسس التنمية الاقتصادية والإدارة والحراك السياسي المدني وتطوير نُظم الصحة والتعليم والثقافة والمساواة بين العراقيين بتنوع أطيافهم، ومنح المرأة دوراً ريادياً في الحياة العامة، جعلته في طليعة دول المنطقة ومركزاً للإبداع الفكري والحضاري مستنيراً بإرثه التاريخي، حيث وادي الرافدين أعرق الحضارات التي عرفتها البشرية.
ولم تكن المراحل اللاحقة خالية من التصدعات والانتكاسات، فعصفت بشعبهِ المآسي، حروب واضطهاد وحصار وصولاً لاستباحة الإرهاب لمُدننا.
يُجادل العراقيون حول سبب الأزمة، وينقسم الجدل حول الأنظمة المتعاقبة على الحكم، لكن التاريخ يدُلنا لانحرافات خطيرة، زج العسكر في السياسة والانقلابات والدساتير المؤقتة وممارسات التمييز والقمع وحملات الإبادة والأنفال والمقابر الجماعية واستخدام الأسلحة الكيمياوية في حلبجة وتجفيف الأهوار.
إن أكبر الدروس المُستقاة من مئوية الدولة العراقية هو الحاجة المُلحّة للحكم الرشيد، فرغم موارد البلد الطبيعية الغنية وطاقاته البشرية الفذة وموقعه الجغرافي في قلب المنطقة، لم يجلب كل ذلك السلام الدائم والعيش الرغيد لمواطنيه.
وان أحد أكبر تحديات الحكم الرشيد، هي الخلل البنيوي في منظومة الحكم بعد العام 2003، فهي لا تفي بمتطلبات العراقيين، ولا جدال في حاجتها لإصلاح حقيقي وجذري، وما تحقق بعد عام 2003 لا يمكن الاستخفاف به، إذ تعاقبت عليه ست حكومات وخمسَة مجالس نيابية بشكل سلمي.
إن ترسيخ الحكم الرشيد، يبدأ باستعادة ثقة الشعب في النظام السياسي، وإنهاء التجاوز على الدولة وإضعافها واختراقها وانتهاك سيادتها.
اليوم، ونحنُ على أعتاب استحقاق وطني مهم بتشكيل حكومة جديدة يجب أن تكون مُقتدرة، نجد من الضروري الانطلاق نحو عقد سياسي واجتماعي جديد ضامن للسلم الأهلي ترسيخا للحكم الرشيد، يقوم على مُراجعة موضوعية لأخطاء وتجارب الماضي.
إن الشروع في هذا العقد ليس مطلباً ترفياً، بل ضرورة حتمية، يُشارك في صياغته الرأي العام الوطني بفعالياته السياسية والاجتماعية، أن المسؤولية التاريخية والوطنية والظرف الراهن الدقيق يقتضي العمل الجاد على إنهاء دوامة الأزمات. ففي نهاية المطاف لا الشيعة، ولا الكرد، ولا السنّة، ولا باقي المكونات راضون عن الوضع الراهن، ويُقرّون باستحالة استمراره.
كذلك إشكالية العلاقة الكردية مع بغداد والتي رافقت بواكير تأسيس الدولة لا تزال قائمة حتى اليوم، ولا بد من حوار جدي في بغداد يضمن شراكة حقيقية عبر حلول حاسمة تخدم جميع العراقيين من البصرة إلى بغداد إلى النجف والأنبار والموصل وإلى كردستان في أربيل والسليمانية.
خرجنا للتو من عملية انتخابية مبكرة استجابة لحراك شعبي وإجماع وطني على الحاجة لإجراء إصلاحات جذرية، ونتوقع استكمال إجراءات الانتخابات القانونية انطلاقا نحو الاستحقاقات الدستورية بتشكيل الحكومة الجديدة.
من الملهم حقاً أن نرى العراقيين، رغم الأزمات وهجمات الإرهاب والعنف، يرتضون الانتخابات وسيلة لحسم مشاكلهم لا الحرب والاقتتال، ولكن أيضا لا يمكن ان نتجاهل تراجع الإقبال على المشاركة في الانتخابات، فالعملية الانتخابية في نهاية المطاف ليست هدفاً بحد ذاته، بل المسار السلمي والضامن لمشاركة واسعة للعراقيين في تجديد خياراتهم وتحقيق تطلعاتهم في حكم رشيد.
إن ظاهرة الفساد الخطيرة، هي الأخرى تُمثل عائقاً أمام الحكم الرشيد، فهذه الآفة الخطيرة مُرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعنف والإرهاب وتغذية الانقسامات وتهديد السلم المجتمعي والتأثير على تكافئ الفرص للعراقيين.
يفرضُ تحدّي الفساد وقفة جادة وحاسمة وحازمة مُشتركة، للمؤسسات الرسمية والفعاليات الاجتماعية والمدنية، فهي معركة وطنية لن يصلح وضع البلد دون الانتصار فيها، تقومُ على ضرب منابع الفساد واسترداد ما تم نهبه وتهريبه.
كما أن المرحلة المُقبلة يجب أن تعمل على تعديلات دستورية لبنود أثبتت الممارسة السياسية مسؤوليتها عن أزماتٍ مُستحكِمة تقف عائقاً أمام تطور العملية السياسية، ولا بد من ثورة تشريعات، بما يحفظ الثوابت ويضعنا مواكبين لتطورات العصر، فالتحولات الكبرى التي شهدها البلد بقيت أسيرة منظومة قانونية لم تواكب التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كقانون العقوبات.
وأمامنا أيضا تحدي تحقيق التحول الاقتصادي، من الخطير استمرار اقتصادنا الريعي غير المُستدام معتمداً على النفط بأكثر من 90%، إذ ان تنامي مؤشرات تراجع الطلب على النفط وتحوّل العالم إلى الطاقة النظيفة سينسحب على تراجع إيرادات اقتصادنا المالية عاجلا أم آجلا.
ومع تسارع وتيرة التحول الاقتصادي العالمي نحو الطاقات المُتجددة عبر اتفاقيات المناخ، يستوجب التخطيط المبكّر لتغيير شامل في أسس اقتصادنا، ويرتبط ذلك بمواجهة أخطر تهديد مستقبلي لبلدنا، والمتمثل في التغيّر المناخي وآثاره الاقتصادية وأضراره البيئية الكبيرة على جميع أنحاء العراق.
إن درجات الحرارة العالية باتت أكثر شيوعًا، والجفاف اشد حدة، والعواصف الترابية أكثر تواتراً، وأراضينا الزراعية مُهددة بسبب التملح، وبناء السدود على منابع وروافد دجلة والفرات قلل من حصصنا المائية، وعليه يجب أن يكون التصدي لتغيّر المناخ أولوية وطنية، وعلينا إنعاش وادي الرافدين وحماية تنوعه البيئي من النخيل والأهوار والسهول وجبال كردستان، عبر الخطط الاستراتيجية الموضوعة لمكافحة التغيّر المُناخي.
إن أحد المآخذ على تاريخ العراق المُعاصر، عدم استفادته من موقعه الجغرافي في قلب المنطقة، انسحبت أزماته الداخلية نحو تأزيم المنطقة بحروب ونزاعات عبثية مع الجيران، وأدت لانهيار المنظومة الإقليمية وسيطرت عليها الاستقطابات والانقسامات التي لم تجلب السلام المنشود، والكل بات متضرر ولا فائز فيها.
علينا تعزيز السياسة الخارجية المرتكزة بالنأي عن سياسة المحاور والصراعات، وبناء علاقات متوازنة مع الجميع، فالعراق الذي كان عنواناً للتنازع يجب أن يكون عنواناً لتلاقي مصالح المنطقة التي من مصلحتها أيضا عودة العراق لدوره المحوري، وإنهاء تنافسات الآخرين على أرضه، فعلى أرض العراق تُحسم التوازنات، وفي بغداد تلتقي الثقافات حيث عاصمة الحضارة ومركز التنوع والتسامح.
إن عراق الدولة في مئويتها تواجه تحديات جسيمة واستحقاقات كبيرة، فالتجاوز على الدولة وانتهاك سيادتها واستباحة هيبتها مبعث مشاكل العراق، بل المنطقة، والعراق القوي المستقر بسيادة كاملة، يعيش في أمن وسلام مع شعبه وجيرانه، هو ما يجب أن يكون عليه، دولة مستندة إلى الدستور، قوية راعية لا قامعة، خادمة للشعب وقادرة على فرض القانون واحترام حقوق الإنسان وترسيخ مبدأ المواطنة ودعم نظامه التعليمي وتطويره.
تحية إجلال وإكرام لكل شهداء العراق، من أجل الحرية والديمُقراطية والكرامة والدفاع عن الوطن.