كتب / علي شمدين
نستعيد بإجلال الذكرى السنوية السابعة لرحيل مام جلال، هذا الزعيم التاريخي الكبير الذي لا تتكرر ولادته عبر التاريخ حسب الطلب بكل تأكيد، وإنما نادراً ما تجود الشعوب من بين صفوفها بأمثاله عبر القرون، هذا القائد الكاريزمي الذي ترك في قلوبنا برحيله المفجع في (٣/١٠/٢٠١٧)، جرحاً عميقاً لن يندمل ما حيينا، ولعل عزاءنا الوحيد ونحن نستقبل هذه الذكرى الأليمة هو العودة إلى سيرة حياته الحافلة بالدروس والعبر التي تعكس بوضوح تجربته النضالية الغنية بالتضحية ونكران الذات، وتكشف لنا عن حكمته الواسعة وبعد نظره الدقيق، وتثبت لنا أهمية تحليلاته الموضوعية وتنبؤاته النظرية التي يشهد الواقع الميداني الذي نعيشه اليوم على صحتها واحدة بعد أخرى، وكذلك لا بدّ لنا من متابعة المراحل الرئيسية التي صقلت شخصيته السياسية، وأكسبتها ملامحها التاريخية التي عرفناها، لنستنتج في النتيجة بأن هناك مدينتين مختلفتين في الزمان والمكان، شهدت الكثير من ذكريات مام جلال وارتبطت بهما محطات هامة من نضاله، وهما مدينتي (كوية، والشام)، اللتين تركتا بصمتهما العميقتين جداً على شخصية مام جلال السياسية وساهمتا بشكل فعال في رسم ملامحها النضالية، ليصبح مام جلال، وفي زمن قياسي قصير، أحد أبرز الرموز القومية للشعب الكردي في عموم كردستان وفي المنطقة والعالم.
فقد شكلت مدينة (كوية)، المهد الأساسي لنمو هذه الشخصية الكاريزمية التي فتحت عينيها على الدنيا في (١٢/١١/١٩٣٣)، والبوابة الأولى التي دخل عبرها إلى الساحة النضالية وانتسب فيها إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني عام (١٩٤٧)، وأصبح في سن مبكرة عضواً في لجنته المركزية عام (١٩٥٣)، وذلك في وقت كانت المنطقة عموماً وكردستان خصوصاً تشهد صراعات دولية وإقليمية عميقة وخاصة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فأظهرت هذه المدينة الصغيرة العريقة مهارات مام جلال وكشفت عن نبوغه كمناضل مقدام وسياسي بارع سرعان ما أخذ مكانه البارز في مقدمة صفوف الحركة التحررية في كردستان العراق ونال ثقتها وثقة زعيمها (الملّا مصطفى البارزاني)، وتتوجت تلك الثقة بشكل مطلق في المؤتمر الموسع الذي عقد في كوية، بتاريخ (١٨-٢٢/٣/١٩٦٣)، الذي أختار مام جلال بالإجماع ممثلاً للشعب الكردي في الحوار مع بغداد، وتخويله بقيادة الوفد الكردي في حوارات الوحدة الثلاثية التي بدأت في القاهرة، وقد ضم المؤتمر حينذاك ما يزيد عن ألفي عضو مثلوا جميع أنحاء كوردستان العراق، بما في ذلك معظم القبائل والاتحادات ومختلف المنظمات الشعبية الكردية والطوائف الدينية، ولهذا فقد كان المؤتمر بالنسبة لمام جلال بمثابة المفتاح السحري الذي فتح به الأبواب مع بغداد ليخاطبها ممثلاً عن الشعب الكردي..
كما أن مدينة دمشق (الشام)، هي الأخرى شكلت بالنسبة لمام جلال الحاضنة الأساسية التي احتضنته برحابة صدر كلما ضاقت به السبل، والجسر الرئيسي الذي عبر من فوقه بأمان إلى العالم الخارجي عموماً، والعربي منه خصوصاً، وهناك استطاع مام جلال أن يؤسس شبكة واسعة من العلاقات التاريخية الهامة مع هذين الوسطين الهامين بالنسبة لقضيته القومية التي صار مام جلال يمثلها ويدافع عنها بثقة، فقد قادته الصدفة إليها عام (١٩٥٥)، وكان حينذاك لا يزال شاباً يافعاً في العشرين من عمره، ناشطاً طلابياً عنيداً، ملاحقاً سياسياً من قبل النظام الملكي، ولهذا اضطر مام جلال لأن يعبر الحدود من دون أن يحمل معه أيّة وثائق شخصية تثبت هويته، فاعتقل على الحدود وزج به في سجن الحسكة، وبعد أن تم الإفراج عنه بمساعدة السيدة (روشن بدرخان)، توجه إلى دمشق على ظهر شاحنة نقل الحبوب، وهناك حصل عن طريق الضابط الكردي (محمد زلفو)، على كافة الوثائق اللازمة لسفره إلى وارسو لحضور مهرجان الشباب والطلبة العالمي، وهناك تعرف مام جلال على الشاعر التقدمي التركي الكبير (ناظم حكمت)، وجذب انتباه الوفود العالمية المشاركة فتمت دعوته لزيارة الصين الشعبية ممثلاً لاتحاد الطلبة والشباب في كردستان العراق.
اجتاز مام جلال الحدود سراً من العراق باتجاه الشام أيضاً عام (١٩٥٧)، وحصل فيها على حق اللجوء السياسي وعلى مخصص مالي شهري يكفيه لتغطية تكاليف معيشته اليومية ونشاطاته السياسية، ومن هناك اتجه نحو موسكو لحضور مهرجان الشباب والطلبة العالمي، واستطاع بجهوده الخاصة أن يلتقي في موسكو مع (الملّا مصطفى البارزاني)، مجددين العهد فيما بينهما على متابعة العمل معاً ضمن الحزب الديمقراطي الكردستاني، وبعد عودته من موسكو إلى الشام ساهم مام جلال إلى جانب المؤسسين الأوائل في وضع اللمسات الأخيرة على مبادرة الإعلان عن تأسيس أول تنظيم سياسي كردي في سوريا بتاريخ (١٤/٦/١٩٥٧)، وشارك معهم في كتابة وثائقه، وتوسط في إقناع الشخصيات السياسية والثقافية والاجتماعية للالتحاق بصفوفه، كما بذل كل جهوده في إقناع المنظمات والجمعيات الكردية الأخرى بحل نفسها والانضمام إلى الحزب الوليد، فهو لم يعتبر نفسه غريباً بين كرد سوريا، وإنما كانت له رؤية كردستانية واضحة وصريحة، فقد كان يؤمن بأن أجزاء كردستان إنما هي أشبه ببيت مقسم إلى أربع غرف، ولذلك لا يعتبر صاحبه ضيفاً في بيته عندما ينتقل من غرفة إلى أخرى.
الحقيقة أن هاتين الزيارتين التاريخيتين شكلتا البوابة الرئيسية التي عبر من خلالهما مام جلال إلى الوسط العربي ليبني فيه أوسع وأهم شبكة من العلاقات الديبلوماسية مع القوى العربية المختلفة، الرسمية منها وغير الرسمية، والتي أثمرت في النهاية عن إسقاط نظام الطاغية صدام حسين، وبناء نظام ديمقراطي فيدرالي، تربع مام جلال طالباني على عرشه كأول رئيس عراقي منتخب، وكان المدخل إلى هذه العلاقات، هو لقاءه في عام (١٩٥٧)، مع أهم الشخصيات العربية، من أمثال ميشيل عفلق (مؤسس حزب البعث)، وأكرم حوراني (رئيس البرلمان السوري)، وعبد الحميد سراج (رئيس دائرة الاستخبارات السياسية السورية)، وفيما بعد التقى مام جلال أيضاً مع الضابط كمال رفعت (وزير الدولة المصري)، ومن خلال هذه اللقاءات استطاع مام جلال أن يعرف الوسط العربي بعدالة قضيته القومية، ونجح في كسبهم إلى جانبها من خلال إبراز أهمية التآخي العربي الكردي، والتأكيد على القواسم المشتركة التي تجمع الجانبين، وفي هذا الإطار أيضاً نجح مام جلال في إيفاد السيدة (روشن بدرخان)، إلى اليونان في عام (١٩٥٦)، لتمثل الكرد في مؤتمر أثينا لمكافحة الاستعمار والعنصرية، الذي حضره ميشيل عفلق أيضاً، وتمكن من إقناع الحكومة المصرية بافتتاح القسم الكردي في إذاعة القاهرة عام (١٩٥٨)، والترتيب لعودة الملّا مصطفى البارزاني من موسكو إلى العراق عبر القاهرة عام (١٩٥٨)، وكذلك حضر مام جلال إلى بغداد باسم اتحاد طلبة كردستان العراق لتقديم التهاني إلى عبد الكريم قاسم بمناسبة استلامه الحكم في العراق عام (١٩٥٨)، ورافقه حينذاك عبد الرحمن ذبيحي أيضاً الذي مثل هو الآخر الكرد السوريين.
وهكذا، كان مام جلال يقدر أهمية توسيع العلاقات مع الوسط العربي ويتقن قراءتها بدقة، وكان يسعى بدون هوادة إلى تعميقها وفقاً لركيزتين ذهبيتين كان عبد الناصر قد نصحه بهما خلال لقائهما الأول في القاهرة عام (١٩٦٣)، الركيزة الأولى: هي أن الحركة القومية الكردية تعادى الانفصالية ولا تريد تقطيع العراق، والثانية: أن الأكراد هم شعب أصيل يسكنون بلادهم كردستان منذ آلاف السنين، فهم ليسوا شعبا طارئاً، وليسوا معادين للعرب بل أخوة لهم، وهاتان الركيزتان كانتا وراء فكرة تأليف مام جلال عام (١٩٧٠)، لكتابه (كردستان والحركة القومية الكردية)، والذي كان يسعى من خلاله إلى التعريف بالقضية الكردية وتوضيحها أمام الرأي العربي، ومن خلال هذه الشبكة الهامة من العلاقات استطاع مام جلال أن يحطم الجدار السميك الذي كان يحيط بالرأي العام العربي، وينسف العقلية الشوفينية والعنصرية التي تعزله عن الشعب الكردي، فاستطاع مام جلال في أول لقاء له في القاهرة عام (١٩٦٣)، مع الزعيم العربي عبد الناصر، أن ينال إعجابه بأسلوبه السلس ومنطقه السليم في عرض قضية شعبه، ولفت انتباهه إلى شخصيته الكاريزمية إلى حد أن عبد الناصر نصح أعضاء الوفد العراقي الذي كان يترأسة (علي صالح السعدي)، أن يقتدوا بشخصية مام جلال وأن يكونوا على صورته، وهذا بالذات هو الذي دفع بالرئيس عبدالناصر لأن يصرح لمراسل جريدة لوموند الفرنسية (إيريك رولو)، بأن الكرد شعب شقيق للعرب، ويعبر حرفياً عن موافقته لإعطاء الكرد في العراق حكماً ذاتياً قريباً من المفهوم الذي شرحه له جلال طالباني في القاهرة.
وبالرغم من حملات التشويه والتشويش التي استهدفت هذه العلاقات ووصمتها بأبشع الاتهامات وعبارات التخوين، إلّا أن مام جلال لم يفرط قط بتلك العلاقات مع الوسط العربي وإنما قام بتعميقها وتوسيعها أكثر فأكثر حتى شملت دائرتها معظم القادة العرب البارزين الذين كانوا خلال النصف الأخير من القرن العشرين، يتزعمون العالم العربي من دون منازع، من أمثال (جمال عبد الناصر، معمر القذافي، حافظ الأسد، أنور السادات، أحمد بن بلا وياسر عرفات..)، واستطاع مام جلال أن يشجع معظم هؤلاء الرؤساء للوقوف مع الشعب الكردي، وخاصة (معمر القذافي، وحافظ الأسد)، وقام بحشدهم في جبهة مشتركة ضد طغيان نظام (صدام حسين)، وأقنعهم بأهمية العمل معاً من أجل إسقاطه، فوقفوا معه في تأسيس حزبه (الاتحاد الوطني الكردستاني)، في دمشق بتاريخ (١/٦/١٩٧٥)، وقدموا له بسخاء الدعم المادي والعسكري واللوجستي للإعلان عن (الثورة الجديدة )، وانطلاق المفرزة الأولى من البيشمركة من القامشلي إلى جبال كردستان العراق بتاريخ (١/٦/١٩٧٦)، ليخيب بذلك ميدانياً أحلام صدام حسين الذي كان يجزم بأن جلال طالباني لن يستطيع أن يصعد ستة مقاتلين إلى الجبل حتى وإن نبتت في رأسه نخلة.
حقيقة كان مام جلال خبيراً في العلاقات الدولية والإقليمية والعربية، وحكيماً في توظيفها لصالح قضيته القومية، ولعل النتائج التي حققتها الثورة الجديدة، التي اندلعت في وقت كان البعض يراها انتحاراً، إنما تؤكد أهمية تلك العلاقات التي أسسها مام جلال ودورها المصيري في إسقاط طاغية العصر صدام حسين، وتثبت بشكل قاطع بعد نظره السياسي وحنكته الديبلوماسية في إدارة الصراع لصالح قضيته القومية في المنطقة عموما، وفي العراق وفي كردستان العراق بشكل خاص، وكذلك لو كتب النجاح للجهود التاريخية التي بذلها مام جلال من أجل بلورة مشروع سلام بين الحكومة التركية برئاسة تورغوت أوزال وحزب العمال الكردستاني بزعامة عبد الله أوجلان، والتي تتوجت بالإعلان عن أول هدنة تاريخية بين الطرفين في (٢٠/٣/١٩٩٣)، لربما كان الشعب الكردي في كردستان تركيا ينعم الآن بثمار تلك المبادرة التي كان مام جلال مهندسها الرئيسي، والتي دفع الرئيس أوزال حياته ضريبة لفشلها مع الأسف الشديد، ليعود الصراع إلى دائرة الدم من جديد ويستمر هذا الصراع حتى يومنا هذا من دون جدوى، كما أن مام جلال حذّر الشهيد قاسملو من الثقة بالنظام الرجعي في طهران، وتنبأ بغدره، فلو أخذ قاسملو بنصيحته حينذاك، لربما كان لا يزال على رأس الحركة الكردية في كردستان إيران ولكان الوضع بشكل أفضل مما هو عليه الآن بكل تأكيد.
وفي الختام لا بدّ من التذكير من جديد بموقف مام جلال حول مستقبل الأزمة السورية، والذي تنبأ منذ اللحظة الأولى جازماً بأن النظام لن يسقط لأنه يمتلك الكثير من أوراق استمراريته، وبأن البلاد سوف تدخل دوامة كارثية من العنف والاقتتال الداخلي، في وقت كان معظمنا يصفق لسقوطه خلال أشهر قليلة، فندمنا فيما لم نأخذ بنبوءته، ولكن لم يعد ينفع الندم بعد كل هذا الدمار والقتل والتشرد والتهجير.
ممثل الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، وممثله في إقليم كردستان العراق.