أثناء مناقشة بحث ترقية لامع في معهد الخدمة الخارجية تقدم به د. سيف الدين زمان، بعنوان (الدبلوماسية السرية ودورها في التفاوض الدولي) كانت لدي بعض الملاحظات الجوهرية :
مثل الأسطورة اليونانية الكلاسيكية عن صندوق باندورا، تثير الدبلوماسية السرية الاحترام والخوف في الوقت نفسه.
١-تاريخيا كان جمع المعلومات واجبا اساسياً للدبلوماسي، فالسفير كما تقول العبارة الشائعة في عصر النهضة كان رسول سلام أولا، وجاسوسا شريفا من ناحية اخرى. وكتب ميكافيلي في هذا السياق : “السفير يكتسب شرفا من المعلومات التي ينقلها للأمير”.
٢-في الوقت الراهن ، حتى من يعارضون السرية علنا يمارسونها في الظل، فقد كانت الإنجازات الدبلوماسية التي حققها أوباما مثل تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع كوبا؛ والاتفاق النووي مع إيران واتفاقية تغير المناخ مع الصين نتيجة لمفاوضات سرية ، اجرتها بشكل مثير للسخرية إدارة تعهدت في البداية بجعل الشفافية حجر الزاوية في سياستها العامة
٢- مع ذلك، ظلت الدبلوماسية السرية مصدرا لشرور عبر التاريخ، فقد عدت المعاهدات السرية التي أبرمتها القوى العظمى الأوروبية قبل الحرب العالمية الأولى سبباً رئيسا للحرب التي دمرت العالم حرفيا
٣-تاليا، كانت احدى نقاط ويلسون 14 تنطلق من الشفافية والعلنية لتجنب تكرار الحرب، على نحو أرسى مبدأ اساسياً في النظام الدولي.
٤-بعد ذلك، اصبحت الدعوة إلى تجريم الدبلوماسية السرية قوية وواضحة. وكانت هناك اوهام بأن الدبلوماسية ستصبح صادقة ومباشرة ونظيفة؛ وستجعل من المستحيل تقريباً الرجوع الى عالم ميكافيلي مرة اخرى
٥-اعادت الحرب الباردة الهوس بالدبلوماسية السرية، وجاءت اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية ١٩٦١ لتنظيم السرية في صورة اتفاقية دولية، ان لم اقل، لحمايتها، في ظل تعارض ايديولوجي صارخ
٦-المدافعون عن حق الجمهور بالمعرفة مثل إدوارد سنودن وجوليان أسانج قد يعتقدون ان الممارسة السرية قد عليها الزمن، وينبغي التصدي لها لحماية الجمهور ، وهناك امثلة تستحق كتابا عن المناضلين من أجل العلنية والمثال الويلسني
٧-اميل لهذا الرأي ولهذه العقيدة في ضوء الممارسات السياسية المعاصرة التي لم تجلب سوى الدمار في “دولة المنظمة السرية” في العراق : كيف تم غزو ايران وما المكاسب التي تحصلت بعد ٨ سنوات طاحنة من الحرب؟، كيف اتخذ صدام حسين قراره الكارثي بغزو الكويت؟. لماذا تم اتخاذ غزو العراق؟، ما ملابسات غزو تنظيم داعش للعراق ؟ الخ
٨-مع ذلك افهم أن الدبلوماسية السرية أصبحت الآن أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. ففي عصر الإرهاب وحروب الإبادة فإن إدارة الصراعات بين الدول أو مكافحة المجرمين والإرهابيين الخطيرين، تدفع الحكومات إلى للعمل في السر. ولن يسر الجمهور بالتأكيد معرفة ان حكومتهم تتفاوض مع المجرمين والقتلة المتورطين بدماء الشعب.
٩-غير أنه من غير المجدي التظاهر بأن المعارضين لنمط “الدولة السرية” يمكن تجاهلهم أو ينبغي تجاهلهم، أو أن حالاتهم لا تستحق الاهتمام الأكاديمي. ينبغي ايجاد توازن بين الشفافية والسرية. انه ليس امراً كماليا في ضوء سياسة التدمير التي حاقت بالعراق في ضوء تاريخه السياسي المعاصر الحافل بالانفصال عن الجمهور ومصالح المواطنين وضعف الخيال السياسي للحكام المتعاقبين.
١٠-ممارسة الدبلوماسية(علنية او سرية)، امر شبه مستحيل في العراق في ضوء عدم وجود سياسة خارجية مركزية وواضحة، ووجود سياسات موازية ومتقاطعة في غالب الأحيان.
كان النقاش مع د. سيف ممتعا، و جسد بحق الصراع بين المثالين : الويلسني الذي يؤكد الشفافية والعلنية في الدبلوماسية والميكافيلي الذي يقوم على السرية وفوائدها بعيدا عن صخب الجمهور والإعلام .
العمل على صياغة دبلوماسية عراقية تحقق التوازن بين المثالين على نحو يحقق مصالح الدولة في ضوء احترام القوانين ومصالح الجماهير يتطلب عملا مشتركا وجهودا عابرة للإختصاصات والايديولوجيات.
تهنئة من القلب للدكتور سيف الذي كتب دراسة تستحق ان تصبح مرجعا مهما للدبلوماسيين ومحترفي السياسة في حال توسعتها إلى كتاب مرجعي. وللمشرف الاخ الدكتور عصام أسعد.
الدكتور سعد سلوم