أ . د . ظاهر لطيف كريم
في الغالب , أن الدراسات حول المذهب الرومانسي تعتمد على خصائصها المعلنة والأساسية وهي البحث عن الذاتية والعاطفية واللجوء الى التأمل والخيال والهروب من الواقع والأندماج مع الطبيعة وحب المرأة , كل هذا الى حد كبير يدخل ضمن حلقة الدراسات التقليدية لهذا المذهب , في حين لم نعتمد على حداثوية العملية النقدية .
في هذا المقال نركز على رؤية العالم ومدى علاقتها بمفهوم المذهب الرومانسي .نعلم جيدا أن للظروف السياسية والأقتصادية والاجتماعية دورا كبيرا لولادة المذهب الرومانسي وهذا يعني وبصورة عامة أن هناك إرتباطا جوهريا مابين معاني الرومانسية والمجتمع , بل أن موضوعات الرومانسية هي موضوعات المجتمع وفي الوقت نفسه أنها تتفق مع رؤية العالم لإن رؤية العالم تدرس ظواهر المجتمع وذلك عن طريق الذوات الفاعلة وحتى أن أغلبية الناس لهم رؤيتهم ولكنهم يجهلون وسيلة الطرح والبحث والتفسير والتأويل .من أجل فهم العالم على الفرد اللاعادي , من أمثال الرومانسيين ,أن يتفاعل مع محيطه بإعتبار أنه جزء مهم في مجتمعه .هنا من واجبه أن يعلم حجم مجتمعه وموقعه في هذا الحجم .لذا أن هذا النوع من الفرد لابد أن يختلف عن الآخرين من حيث الوعي والمواقف والأفكار بحجة أن الفرد العادي وبسبب عدم إفهامه وإدراكه للمحيط لايستوعب الأسئلة الفلسفية الحرجة.
أن كل من الرومانسية ورؤية العالم أو الرؤية الكونية تقوم على الوعي بموقع الرؤية , إذ أن العالم في ذاته هو تأويل أو تفاعل معه كما أكد كل من كانت وديلثاي . وهذا يعني أن الرومانسية ورؤية العالم ماهي إلا تمثيل للنشاط الجمعي لكن بوعي فردي مدرك ومتفهم , لانهما تقومان بإخراج الواقع على مستوى النشاطات المختلفة ,المعرفية والفكرية والسياسية …الخ .من هذا المنطلق يقول لوسيان غولدمان بأن رؤية العالم هي عبارة عن مجموعة من التطلعات والإحساسات والأفكار التي توحد أعضاء مجموعة اجتماعية وعلى وجه الخصوص الطبقة الاجتماعية وتجعلهم في تعارض مع المجموعات الأخرى .
هذه التعريفة تتطابق تماما مع مفهوم الرومانسية .وإنطلاقا لهذا المفهوم فإن الرومانسية ورؤية العالم تتعارض مع الرؤية الفردية أو الذاتية. ولهذا أكد غولدمان بأن رؤية العالم في العمل الأدبي ليست من إبداع الأفراد لإن حجم الأدب والكون وموضوعاتهما أكبر بكثير من حجم الأفراد , أو ان الأدب واقعة اجتماعية وفكرية وسياسية واقتصادية وليست فردانية وأن الفرد مهما بلغ قوته إلا أنه لايمكن , كليا , أن يحقق أهدافه وغاياته إلا من خلال مثل هذه الواقعيات .
هنا أن دور الفرد المتمرس هو تقصي المعلومات نتيجة إنسجامه مع المجتمع لكون هذا النوع من الفرد أحيانا وبطريقة لاشعورية ينتمي الى العالم حتى ولو أن معظم أفراد هذا العالم ضده كما نجد عند الرومانسيين . بهذا الخصوص ,أن الرومانسية ورؤية العالم تأسستا بفعل الوعي القائم أو الفعلي والوعي الممكن , إن الأول عند غولدمان هو إحساس بظرفية واحدة يجمع بين أفراد الجماعة وهو وعي متطور في بنيات متغايرة ومتلاحقة والثاني هو تصور لما ينبغي أن يكون , أي تصور إمكانية تغيير الواقع القائم وتعديله وفق ماتراه الجماعة .
من زاوية أخرى , فإن الوعي القائم هو وعي آني لحضوي من الممكن أن يحل مشاكله التي يعيشه لكن لايملك حلولا جذريا لمواجهتها . أما الوعي الممكن هو ماتطمح إليه طبقة اجتماعية بعد تعرضها لضغوطات مختلفة وهو وعي آيديولوجي مستقبلي ليس بالضرورة أن ينجح في الزمن الحاضر . كل هذا يعني أن موضوعات الرومانسية ورؤية العالم هي أدوات موضوعاتية وأن الموضوعاتية تؤكد حقيقة الموضوعية التي تعتمد على الخبرة الذاتية , وأن الموضوعاتية هي نوعان : النوع الأول الأنا الذاتي أو النفسي الذي يهتم بالعالم والتجربة والثاني الأنا المتسامي الذي يشترك مفاهيم العالم دون أية منفعة ذاتية . ضمن هذا السياق , فإن القصد من هذه الكتابة هو تغير مبدأ الفهم الرومانسي بأنه عاطفي وصاحب خيالات واسعة ومتشائم في معظم الأحيان وأن موضوعاته لاتعالج أية قضية ذات أهمية اجتماعية وفكرية وإقتصادية , أو أنه نرجسي لايتقبل معاني الحياة ورؤية الآخرين تجاه الموضوعات الحياتية , مع كل هذا نجد بأن هناك علاقة قوية بين الوعي والخيال وبين التأمل والواقع , إذ أن وعي الذات هو جزء من التفكير العقلي وأن للوعي أنواع منها عفوي وتأملي وحدسي وإدراكي .
العفوي هو نشاط ذهني وبحاجة الى جهود اجتماعية مكثفة. التأملي يتطلب حضور الذهن ويركز على القدرات العقلية . والحدسي هو الوعي المباشر دون اللجوء الى الأدلة . أما الأدراك هو التعرف بالعالم الخارجي عن طريق التأويل وحججه المنطقية .والخيال هنا لايتحقق إلا بفعل الوعي وفي حال غياب العقل فإن الخيال هو البديل لملء فراغات العقل .أن قصدية الخيال تتضح في ربط العلاقات الخيالية بالوعي والشعور لأن , بالأساس , هناك علاقة مابين الأحاسيس والمعاني والمعاني بالموضوعات .والخيال , على الرغم من أنه ظاهرة عفوية وطبيعية إلا أنه لايتحقق إلا بمساعدة الوعي والأحاسيس, فعلى سبيل المثال إذا قلنا بأن الشاعر الفلاني صاحب الوعي والشعور والأحاسيس فإنه بدون أدنى شك هو صاحب القدرة الخيالية المتميزة والعكس صحيح .
وهذا يعني أن الوعي واللاوعي هما يصنعان الخيال وإذا غاب الأثنين فإن الخيال يغيب معهما .وهذا يدل بأن الخيال لايأتي بمعنى الهروب من الواقع بل أن أصحابه يبحثون عن نوعين من الواقعية , الواقع الاجتماعي والواقع غير المرئي .لهذا يقول الشاعر الرومانسي الإنجليزي وردزورث ( 1770- 1850 ) بأن الخيال قوة مقدسة لإنه بمثابة الوحي المقدس .وإذا آمنا بأن الموضوعات الرومانسية هي موضوعات رؤية العالم حينئذ يمكن القول بأن زمن الرومانسية يمتد منذ العصر الأسطوري الى العصر الأدبي .لهذا أن هناك إرتباطا قويا مابين موضوعات الأثنين ( الرومانسية ورؤية العالم ) لإن مصدر المعلومات والأحاسيس والفكر عند الأثنين هو ناتج عن وعي جماعي إنساني وذلك بفعل وتنسيق الذات الفاعلة .
فمن جانب أن العلاقة مابين الرومانسية ورؤية العالم هي ليست علاقات التأثير والتأثر والمحاكاة بل هي علاقة تكاملية ناتجة عن وعي شمولي كوني وطبيعي . ومن جانب آخر , أن هناك علاقة مابين الشعر عموما والمجتمع كمادة أساسية لرؤية العالم . من هذا المنطلق أكد الشاعر الرومانسي , شيللي ( 1792-1822 ) بأن الشاعر الرومانسي هو مشرع القانون والكون ومؤسس المجتمع المدني ومخترع الحياة وذلك بفعل مصدره الذي يعتمد على الإلهام والوعي والإدراك والتأمل والحدس والموضوعاتية التي تبين وعي الذات والعالم وتساعد موضوع التحويل من العالم الحسي الى مادة روحية ولهذا السبب أن الموضوعاتيين من أمثال باشلار وسارتر وستاروبنسكي تجنبوا من إسم المؤلف لإنه ليس سيد عمله ونتاجه .
هذا المقال هو جزء من محاضرة الكاتب قدمه لطلبة الدراسات العاليا , الماجستير – قسم اللغة العربية بجامعة السليمانية, 2024 .