د. نادية هناوي
تطوّرت المخاطبات عبر التاريخ، ومعها تغيّرت وظائف كلّ من المؤلّف والقارئ كما تبدلّت أدوارهما، ففي البدء كانت المخاطبة عبارة عن محادثةٍ شفاهيةٍ بين متكلّم – هو فردٌ من العائلة أو حكيم أو قدّيس- يخاطب جمعًا من المتلقّين خطابًا مباشرًا وبصيغٍ متداولةٍ ثم صارت بلاغيّةً، تُثير مشاعر جمهورٍ، يتحدّد دوره في الإصغاء أو الإنصات.
وكلّما كان الخطاب مقنعًا كان في ذلك الدليل على قدرة المتكلّم البلاغيّة. وبمرور الزمان تنوّعت المخاطبات بتنوّع أساليب البلاغة مقايسة وبرهنة. وغدا الخطاب والمنطق مشتركين في أية محادثة يراد منها الإقناع مشافهةً كانت أم مكاتبةً. وتعقدت أدوار الخطيب، وصار مطلوبًا منه أن يكون أهلًا للإقناع بما هو ممكن أو محتمل أو غير محتمل، يبحث عن الضرورات وتسبيب العلاقات بين الأحداث. ولقد توسَّع نطاق الاقناع والمحاججة؛ فلم يرتهنا بوحدة الموضوع، بل صارت وحدة الفعل تقوم بذلك أيضًا.
ولأهميّة الخطابة، ألّف أرسطو كتابًا تحدّث فيه عن مسائلها، وأهميّة أن تثير الانفعال وتصوِّر الأخلاق بطابع دراميّ مشوِّق. ولأهميّة الأسلوب الخطابيّ وجماليّاته دخل في بناء بعض الحكايات مثلما دخل في نظم القصائد. وعَرَفَ العرب فنّ الخطابة مثلما عرفوا فنّ القصّ، وحدّد البلاغيّون العرب مثل الجاحظ وابن المعتزّ وابن رشيق أساليب الخطاب. وكان لتأثير الخطابة في فنون النثر ومن بينها فنّ القصّ أن صار الأسلوب الخطابيّ عنصرًا رئيسًا في بناء أيّة مقدّمة يكتبها المؤلِّف لمصنّفه الأدبيّ، وغايته أن يوجّه قرّاءه ويقنعهم بما ألَّفه، من موقعين: الأول هو فيه قاصّ خارجيّ، مفصول عن السرد يخاطب القارئ مباشرة. وموقع آخر داخليّ، هو فيه حكّاء شفاهيّ ( An Oral Storyteller ) مهمّته توصيل القارئ بسارد القصّة، الذي له أن يتخيّل ما يشاء، مستعملًا من الضمائر ما يريد، وقد يحاور أحد المسرودات، وربّما يشارك في الأحداث.
وما كان للمؤلف أن يكون في هذين الموقعين – خارجيّا بوصفه منتِجًا، وداخليًّا بوصفه حكّاءً وساردًا- لولا التطور في أدواره الخطابيّة؛ فكان دوره الأول تعليميًّا هو فيه شخصيّة حقيقيّة تخاطب المتلقّين مباشرة ثم كان الدور الثاني رمزيًّا هو فيه مموّه بصورتين ضمنيّتين منفصلتين عنه، هما الحكّاء والسارد. وعلى الرغم من التبدّل في هذه الأدوار، فإن المؤلف ظلّ حريصًا على توطيد صلته بالقارئ، تشويقًا له وإبعادًا للمللِّ عنه. وهذا ما أعلى من شأنه، وجعل الغاية التثقيفيّة تقليدًا من تقاليد السرد القديم.
ويعد الجاحظ أشدّ الكتّاب اهتمامًا بالقارئ، وكان حريصًا على مخاطبته بقصد تنشيطه وتوعيته على شاكلة قوله: ( وإنْ كنّا قد أمللناكَ بالجدِّ وبالاحتجاجاتِ الصحيحةِ والمروَّجةِ لتكثرَ الخواطرُ وتُشحذَ العقولُ، فإننّا سنُنشِّطكَ ببعض البطالاتِ وبذكرِ العللِّ الظريفةِ والاحتجاجاتِ الغربيةِ؛ فرُبَّ شِعْرٍ يبلغُ بفرطِ غَباوةِ صَاحبهِ ما لا يَبلغَهُ أحرُّ النوادرِ وأجمعُ المعانيَّ.. وسنذكرُ من هذا الشكلٍ عللّاً ونوردُ عليكَ من احتجاجاتِ الأغبياءِ حججًا، فإنْ كنتَ ممن يَستعملُ الملالةَ، وتعجلُ إليه السآمة ُكان هذا البابُ تنشيطًا لقلبكَ واجمامًا لقوتكَ). ولا يستقول الجاحظ القارئَ، أي لا يتكلم بالنيابة عنه، لأنه بالنسبة إليه طرف مستقل بحاله، وعليه – اي القارئ- أن يراعي هذا الاستقلال.
وللأسلوب الخطابي دور مهم في مقدمات الرسائل العلمية والكتب الفلسفية، وفيها يحضر القارئ طرفًا فاعلًا في الحوار والجدل. ففي (رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء) تتم مخاطبة القارئ ومجادلته بلفظتي( أيها الأخ وأخي): ( اعلمْ أيَّها الأخُ البارُّ بأنّه كان من مذهبِ إخواننا الكرام أيّدهم الله النظرَ في جميع الموجوداتِ التي في العالم) “. ويفتتحُ ابن طفيل قصته(حي بن يقظان) بمقدمة، هو فيها خطيب، يعتمد أسلوب الاستدلال، مبتغيًا استمالة القارئ إلى صفه، وإقناعه بجدوى ما سيقرأه من أحداث القصة، قائلا: ( أيُّها الأخُ الكريمُ الصفيُّ الحميمُ، منحكَ اللهُ البقاءَ الأبديَّ وأسعدكَ السعدَ السرمديَّ أنْ أبثَّ إليكَ ما أمكنني بثُّه من أسرار ِالحكمةِ الشرقيةِ التي ذكرها الشيخُ الإمامُ الرئيسُ أبو علي بن سينا. فاعلمْ أنَّ من أرادَ الحقَ الذي لا جعجعةَ فيه، فعليهِ بطلبهِ والجدِ في اقتنائهِ.. ولقد حرَّك مني سؤالكَ خاطرًا شريفًا، أفضى بي والحمدُ لله إلى مشاهدةِ حالٍ لم أشهدها ).
إنَّ هذا الاهتمام بجماليات المخاطبة الأدبية، منح المؤلف المركزية في المرويات التراثية، وصيّر القارئ طرفًا فاعلًا، بسببه ترسَّخت الغاية التثقيفية، فلا نكاد نجد حكاية أو قصة، إلا والمؤلف يسعى فيها إلى إفهام القارئ. حتى إذا وصلنا إلى العصر الحديث وتحديدًا القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، وجدنا القصاصين حريصين على اتباع تقاليد السّرد القديم؛ الأمر الذي جعل القارئ حاضرًا في كتاباتهم، يخاطبونه مباشرة من خارج العملية السّردية بوصفه متلقيًا. والقصاصون شأنهم شأن الخطباء، يخاطبون الجمهور، ويكون الحوار جزءًا من قصصهم، يجري ما بين الشخصيات أو بينها وبين السارد.
إنَّ ما مرَّت به المخاطبات الأدبية من تطورات تاريخية، معها تأصلت علاقة المؤلف بالقارئ، هو الذي ساهم في ترسيخ تقاليد خاصة، استمرت بالتناقل عبر الأجيال ثم هاجرت عبر الجغرافيات. هو ما لم توله نظريات السرد الكلاسيكية وما بعد الكلاسيكية اهتمامًا، بل تهاونت بالعموم في البحث عن أصول وتقاليد، كان السرد العربي قد رسَّخها وداوم على اتباعها.
المصدر .. الصباح

