بما أنني لا أُطيق حرّ الصيف، ولا يطيب لي فيه خروج ولا لقاء، وهربت من ضجيج الأخبار، ومن حالة الاضطراب النفسي التي تراودنا كل حين، مرة بسبب تأخّر الرواتب، ومرة لأننا لا نعلم هل اتفقت بغداد مع أربيل، أم لا يزال النفط رهينةً للغموض، والمواطن ضحيةً لتضارب السياسات.
كان الهروب – ككل مرة – إلى مكتبتي. تأملتُ رفوف الكتب التي تراكمت فيها، تلك التي اشتريتها ولم أقرأها بعد. وقع بصري على كتاب لطالما سمعت عنه، لا سيما عن صاحبه، الأديب الداعية الشيخ محمد الغزالي (1917 – 1996). عُرف الغزالي بوسطيته، ورفضه للتشدد، وبأسلوبه الأدبي الآسر، الذي يخاطب القلب كما يخاطب العقل. وكان الكتاب: “نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم”.
أنا لست مفسّرًا، ولا أزعم التخصص في علوم التفسير، لكنني قارئ يعيش أسئلته، متأثرٌ بالمناهج النقدية الحديثة، ولهذا دونت بعض الملاحظات بوصفها انطباعات قارئٍ تفاعل مع النص:
ما يشدّك في هذا التفسير، هو حفاظ الغزالي على ثوابت العقيدة مع إدراكه لتحولات العالم. حين يفسّر آية، لا يغرق في المعاجم، بل يوقظك برؤية حضارية شاملة، تجعلك ترى القرآن منهجًا حيًا للإنسان المعاصر. وقد انتقد التفسير التجزيئي الذي يقتطع الآيات من سياقها، داعيًا لفهم السورة كوحدة موضوعية متكاملة.
بحسب الغزالي، للتفسير مرحلتان: الأولى، مرحلة وعي الإنسان حين يتلقى خطابات القرآن كصوت وجودي للكون، والثانية، مرحلة إنتاج التأويل، حين تُصاغ المقولات وتُنتج اللغة لفهم النص.
القرآن بلاغ مطلق، واللغة فيه ليست مجرد وسيلة تواصل، بل صورة معرفية توليدية، تندرج في طياتها مفاهيم عميقة. إنها ليست فقط أصواتًا، بل صورة صوتية للعلم، للمنطق، وللروح.
اللغة القرآنية مركّبة، غنية، مكثفة. لهذا فإن التفسير ليس فعلًا لغويًا فحسب، بل هو علم يتطلب وعيًا بالعصر، وثقافة شاملة، وفهمًا للإنسان. ولهذا تتعدد القراءات والتأويلات، لأن النص مفتوح على الزمان، ممتد في الإنسان.
كلما قرأنا التفسير، نزداد وعيًا بأن مجالات الغيب ما زالت بعيدة عن إدراك المفسرين. ومن يملك أدوات العلوم الإنسانية، والنظرية النصية، يستطيع أن يفسّر القرآن تفسيرًا جديدًا، دون أن يفرّط بثوابته.
لقد كان كتاب الشيخ الغزالي تذكرة جديدة بأن العودة إلى القرآن ليست مسألة دينية فقط، بل هي أيضًا رحلة فكر ومعنى، تبدأ من الإيمان، ولا تنتهي عند حدود العقل.
المرجع:
محمد الغزالي، نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، دار الشروق، ط4، 2000م