فرست عبدالرحمن مصطفى
قرأتُ “الأمير” ولم يكن كتاباً عابراً… بل تجربة عقلية تهزّ اليقين من جذوره.
كان كمن يفتح نافذة سرّية في جدار التاريخ، نافذة لا تدخل منها الشمس، بل تتسلل منها حقيقة السلطة، عاريةً، باردةً، تُحدّق فيك بلا خجل.
في البداية، تشكّكتُ:
هل هذا كتاب في فن الحكم… أم في فنّ القسوة؟ هل هذا وصف للواقع… أم دعوة للتجرد من الضمير؟
لكن سرعان ما أدركت أن ميكافيلي لا يكتب ليُعجِب، بل ليُفهم. ولا يصوغ الحروف ليجعل الحاكم محبوبًا، بل لينجو.
لم يكن “الأمير” كتاباً أخلاقياً، بل مرآة سياسية عارية.
ميكافيلي يهمس للحاكم:
لا تهتم أن تكون طيباً، اهتم أن تكون ضرورياً.
لا تطلب الحب، بل الطاعة.
لا تثق بالشعب، بل راقبه.
لا تتردد حين تحتاج للبطش، فالتردد ضعف، والضعف لعنة الملوك.
أدهشني كيف استطاع الكاتب أن يفكك النفس السياسية كما يفك الجراح أنسجة جسد مريض.
هو لا يُدين، ولا يُثني، بل يُحلل.
يرى أن الغاية تبرر الوسيلة، لكنه لا يقولها ببرود فلسفي، بل بشغف الناصح، كأن على رأسه تاج غير مرئي، يريد أن ينقذ صاحبه من السقوط.
كنت اتفق معه احياناً و خاصتاً حين تحدث عن الفوضى بعد ضعف الدولة، حين كشف قسوة الشعوب حين تجوع، حين فضح هشاشة الأخلاق في بلاط الملوك.
لكن في أحيانٍ أخرى، شعرت أنني أغرق في بحر مظلم، بلا قاربٍ من الضمير.
هل السياسة حقاً عالم بلا أخلاق؟
هل النجاح لا يأتي إلا على جثث المبادئ؟
ومع ذلك…
لا يمكن إنكار أثر هذا الكتاب.
فهو ليس مجرد دليل للحكم، بل تشريح لمعضلة الإنسان حين يتقلد السلطة.
متى يكون صارماً؟ متى يخدع؟ متى يبطش؟ وكيف يبقى حيّاً وسط بحر من الأعداء، والمؤامرات، والنفاق؟
ميكافيلي، في عمق نصوصه، لا ينحاز للشر… بل للفاعلية.
هو لا يعلّم الحاكم كيف يكون عادلًا، بل كيف لا يُطاح به.
هو لا يُقدّس الغدر، لكنه يعترف أن الصدق وحده لا يبني العروش.
وعندما أغلقتُ الصفحة الأخيرة من الكتاب، كنت أشعر بشيء غريب:
رهبة… لا من الكاتب، بل من الحقيقة التي كشفها.
وكأن السياسة، حين تتجرد من الشعر والخطابات، لا تبقى إلا كما رآها ميكافيلي: “فن البقاء، مهما كانت التكلفة”.

