الكاتب..إسماعيل محمود
ليست كل أزمة في التعليم تُحلّ بإضافة أبنية أو توسيع مقاعد القبول، فالمشكلة الحقيقية قد لا تكون في عدد الجامعات أو طاقتها الاستيعابية؛ بل في السؤال الأعمق: ماذا ندرّس؟ ولماذا؟
نحن أمام مشهد عالمي يعيد فيه العقل المؤسسي للأمم ترتيب أولوياته، ليس عبر إنشاء جامعات أكثر، بل من خلال مراجعة التخصصات، وإلغاء ما تآكل منها، واستحداث ما يليق بالقرن الحادي والعشرين.
وهنا تبدأ المفارقة: فبينما تمضي دول مثل الصين وألمانيا واليابان إلى رسم خريطة جديدة لتعليمٍ يخدم المستقبل، لا تزال جامعات عربية – ومنها عراقية – تُكرّر تخصصات بلا أثر، وتُخرّج أفواجًا بلا بوصلة.
لا يزال التعليم العالي يفتقر إلى بوصلة واضحة توجه التخصصات وفق احتياجات السوق والمجتمع والدولة، لدينا أقسام جامعية عمرها عقود لم تُراجع محتوياتها، برامج ماجستير ودكتوراه تُستنسخ دون غاية، وخريجون يُسلَّمون شهادات ثم يُتركون لمصير البطالة أو الهجرة، والأدهى أن بعض التخصصات تُفتح لا لحاجة وطنية؛ بل استجابة لضغط سياسي أو عشائري أو استرضاء مناطقي.
لسنا ضد الفلسفة أو التاريخ أو الأدب أو اللغة العربية والكاتب خريج تلك التخصصات الانسانية – وهي ركيزة الهوية ومرآة الحضارة – لكننا ضد أن تتحوّل هذه التخصصات إلى ممرات إجبارية نحو العطالة والخيبة، فمن حقّ الدولة أن تسائل الجامعات : ما جدوى تخصصاتكم؟ ما معدلات التوظيف؟ ما الأثر الذي تتركونه في السوق، أو على الابتكار، أو في خدمة الناس؟
في زمنٍ بات فيه الذكاء الاصطناعي جزءًا من الأمن القومي؛ وتحليل البيانات شرطًا لاتخاذ القرار؛ والطاقة المتجددة بديلًا استراتيجيًا؛ والغذاء الذكي مشروعًا لتأمين السيادة… من غير المقبول أن نظل ندرّس بلا مراجعة؛ ونُخرّج بلا خطة.
فكم عدد الجامعات العراقية التي أطلقت برامج في هذه التخصصات؟ كم منها راجع برامجه الأكاديمية خلال السنوات الأخيرة؟ من يضمن أن التخصصات المفتوحة حاليًا تخدم رؤية العراق المستقبلية؛ لا مجرد مناهج موروثة؟ وأين الجهة التي تحاسب المؤسسة الأكاديمية إذا أصرّت على تخريج أجيال من دون أفق أو جدوى؟
حين خصّصت الصين 40% من مقاعدها الجامعية للتخصصات الهندسية والتقنية، لم يكن ذلك عبثًا، بل لأن المستقبل هناك يُصاغ في المختبرات لا في مكاتب التوظيف، أما حين نُهمل نحن السؤال عن جدوى ما ندرّسه؛ فإننا نصنع شهادات من ورق؛ لا تعترف بها حتى الحياة.العالم لا ينتظر المترددين، فهل نملك الشجاعة كي نعيد رسم خريطتنا الأكاديمية؟
أم سنظل ندور في فلك تخصصات بلا مستقبل… وتعليم بلا بوصلة؟
المصدر .. الزمان