فرست عبدالرحمن مصطفى
اتفاقية لوزان 24/7/1923 و خيبة بريطانيا من الكورد بعد الحرب العالمية الأولى…
في أعقاب انهيار الدولة العثمانية، وجدت القوى الاستعمارية نفسها أمام فسيفساء معقد من الشعوب والطوائف والقوميات التي كانت تحت سلطة الباب العالي. الكورد، وهم إحدى أكبر القوميات التي لم تنل دولة خاصة بها، بدوا في لحظة ما وكأنهم مرشحون طبيعيون للاستقلال أو على الأقل للحكم الذاتي.
غير أن هذه اللحظة سرعان ما تبدّدت، ومع توقيع معاهدة لوزان (1923)، سقطت القضية الكوردية من حسابات القوى الكبرى، وعلى رأسها بريطانيا. فهل كانت هناك خيبة بريطانية من الكورد؟ وإن كانت، كيف نفهمها؟
الكورد في الحسابات البريطانية: الأمل المبكر
مع دخول القوات البريطانية إلى العراق وشماله، بدأت تظهر ملامح تعاون مع بعض الزعامات الكوردية، خاصة في منطقة السليمانية، حيث عُيّن الشيخ محمود الحفيد حاكماً تحت الإدارة البريطانية. كانت لندن تأمل أن يشكّل الكورد حليفاً محلياً مستقراً يمكن الاعتماد عليه في ضبط تلك المناطق الجبلية.
كذلك، كانت هناك مشاورات داخل الدوائر البريطانية بشأن “الحل الكوردي” المحتمل، خاصة في ظل ما نصّت عليه معاهدة سيفر (1920) من إمكانية إقامة دولة كوردية في مناطق جنوب شرق تركيا.
من الحليف إلى العبء: أين خابت التوقعات البريطانية؟
العلاقة بين البريطانيين والكورد ما لبثت أن تدهورت بسرعة، ويمكن تلخيص مظاهر الخيبة البريطانية في النقاط التالية:
- التمرّد الكوردي على سلطة الانتداب:-
الشيخ محمود الحفيد، الذي نُصّب بإرادة بريطانية، تمرّد ضد سلطاتهم أكثر من مرة، وأعلن نفسه ملكاً على كوردستان. هذا الانقلاب على التحالف أحرج بريطانيا وأفقدها الثقة بقياداتها المحلية الكوردية.
2 غياب قيادة موحدة:-
الانقسامات القبلية والمناطقية والدينية داخل المجتمع الكوردي جعلت من المستحيل تشكيل وفد سياسي موحّد أو حركة قومية تمثيلية. في نظر البريطانيين، كان الكورد شعباً ممزقاً لا يمكن التعويل عليه لقيادة مشروع سياسي مستقر.
- التقديرات الخاطئة لولاء الكورد:-
كانت بعض النخب البريطانية تتوقع أن يقف الكورد ضد الأتراك بسبب سياسات التتريك والقمع. لكن الواقع أظهر تردّداً واسعاً بين الكورد، وعدم استعداد للانخراط في مشروع سياسي واضح، مما خالف تلك التوقعات.
- كلفة السيطرة على المناطق الكوردية:-
المناطق الكوردية كانت صعبة التضاريس، وملتهبة بالصراعات المحلية. تكبّدت القوات البريطانية خسائر، واضطرت للقيام بعمليات عسكرية متكررة، ما جعل وجودها هناك مكلفاً ومرهقاً.
لوزان: لحظة التخلي الكامل:-
مع اقتراب مفاوضات معاهدة لوزان، قررت بريطانيا التركيز على مصالحها الأكثر أهمية:-
- السيطرة على ولاية الموصل الغنية بالنفط.
- وتثبيت حكومة هاشمية موالية في العراق.
- والتوصل إلى تسوية سلمية مع تركيا الكمالية.
ولأن الكورد لم يشكلوا قوة ضغط منظمة، ولا حليفاً موثوقاً، فإن بريطانيا لم تدافع عنهم في المفاوضات، ولم تذكرهم كقضية تستحق الحماية أو الحكم الذاتي، في حين ضمنت حقوق أقليات أخرى مثل الأرمن واليونان.
هكذا، وُقعت لوزان دون ذكر اسم الكورد، وكأنهم غير موجودين، في تجاهلٍ قاسٍ لهوية شعب كان يتطلع إلى اعتراف دولي بعد قرون من التبعية.
هل كانت خيبة بريطانية أم تخلٍ محسوب؟؟؟
من منظور سياسي بارد، كانت خيبة بريطانيا من الكورد نتاجاً لمزيج من عوامل داخلية وخارجية:-
- الكورد فشلوا في بناء حلف سياسي موحد.
- بريطانيا كانت تبحث عن شركاء لا يخلقون مشاكل.
- المصلحة الاستراتيجية كانت دائماً أهم من المبادئ القومية أو وعود ما بعد الحرب.
بعبارة أخرى، بريطانيا لم تتخلّ عن الكورد لأنها أُصيبت بخيبة شخصية، بل لأنها أدركت أنهم لا يخدمون مصالحها كما أرادت.
خيبة بريطانيا من الكورد، في النهاية، لم تكن مأساة بقدر ما كانت صفقة. صفقة دفعت فيها القضية الكوردية الثمن، مقابل النفط والاستقرار والحدود. وما زال صدى تلك الصفقة يتردد في كوردستان إلى اليوم، حيث ما تزال الأسئلة معلّقة:
هل كان بالإمكان فعل أكثر؟ وهل ستعيد الجغرافيا السياسية فتح الملف من جديد؟
حتى ذلك الحين، تبقى لوزان وثيقة خيبة، لا لبريطانيا فحسب، بل للكورد أنفسهم أيضاً.

