أحمد حسين أحمد
الترجمة: قسم اللغة العربية – موقع گلاوێژخان
دروس التأمل ليست مجرّد بحث في الماضي أو نداء حنين، بل هي مسؤولية أخلاقية ترتكز علي الصدق، ونفاذ البصيرة، وسرعة البديهة. الوصول إلي أعماق الذات، والانحدار في سلالم الضمير، يتطلّب شجاعة القلب وسموّ الروح؛ تلك الروح التي تأبي أن تُهان أو يُساوم عليها. إنه الضمير الذي يجمع حوله الأقلام، فتكتب بلغة الزهور وعطرها، وتستقبل الكلمات كما تستقبل الطيورُ الفجرَ الأول.
الضمير ليس حبرًا يُستهلك على الورق، ولا سلعةً تُباع في سوق النفاق، بل هو شجرة تنمو ببطء في ظلال التجارب، وتتجذّر في تربة الناس الذين يرفضون أن يخدعوا أنفسهم. القارئ والمجتمع معًا يبحثان عن تأملاتٍ تحمل أثرًا حقيقيًا؛ تأملات قادرة على كسر الجمود، وصناعة المواقف، وإعادة ترتيب الرؤي التي لطالما التصقت بعقل الكاتب. هذه التأملات تحاول أن تزيل عن الكلمات غبار المألوف، لتعيدها إلي بهاء النظرة الأولى.
التأملات التي بين دفّتي ” گەلاوێژ” ليست اجترارًا لذكريات غابرة، بل رؤي تتطلّع إلي آفاق المرأة الكردية، وإشراقات نحو سعادتها وتقدّمها.
“ذكريات لا تُنسي” يضمّ 263 صفحة، طُبع في مطبعة آراس – أربيل عام 2009، بإشراف الأستاذ الدكتور كمال غمبار، الذي قدّم للكتاب بمقدمة وافية، معترفًا بمكانة السيدة گەلاوێژ، واصفًا إياها بأنها كاتبة روائية وقصصية، ومترجمة بارعة تتقن الكردية والعربية والفارسية، تحمل ذائقة أدبية نادرة تضعها في الصفوف الأمامية بين المبدعات الكرديات.
يقول عنها: «إنها، بوعي أوروبي واضح، تقرأ الأحداث والوجوه دون أن تنحاز لأي طرف أو تخضع لغرض». ويضيف: «گەلاوێژتكتب بلغة قومية صافية، تقف في وجه التعقيد والتزييف، تنتصر للوضوح وترفض التزييف». أما گەلاوێژ، فتقول في مقدّمتها: “أريد أن تُفهم كتاباتي كما هي: صافية، بلا تلوين أو تحريف”.
أسلوبها في تدوين التأملات بسيط وعذب، لغتها ناعمة تتسلّل إلى ذهن القارئ بانسيابية، كأنها رواية تنساب أحداثها من دون افتعال. الحياة في نصوصها ليست بعيدة عنا؛ بل تأخذ بأيدينا لنرى الأشياء كما هي، بألوانها الحقيقية، دون رتوش.
هكذا نجدها تقول عن خالها، حمزة عبد الله: «علّمني الكردايتي كقيمة مقدّسة، فلم أنحنِ يومًا لمن أراد تشويه اسم الكردي». وترد علي سؤال (نائل) بقولها: “أنا لست عربية، أنا فتاة كردية، لكنني أتقن العربية”.
گەلاوێژ لا تحتاج إلي استوديو تصوير ولا إلي قاعات فخمة؛ فعدسة قلبها وعقلها تلتقط الصور بوضوح لا يُضاهي. عن زوجها، الأديب إبراهيم أحمد، تقول: «كان والد هيرو إنسانًا رقيق المشاعر، شاعرًا، وسيماً، أنيقاً؛ حين كان يمتطي خيالي كما يمتطي الفارس حصانه الأبيض”.
من يتجوّل في هذه التأملات سيصادف معالم بارزة لا يمكن تجاهلها:
استحضار التاريخ الشخصي والعام، بكل آلام التشريد والمنفي، والنهوض بعد السقوط.إيمان طفولي مثالي بحتمية النقاء والانتصار.
مساءلة الذات والمجتمع بطرق جديدة عبر أسماء بارزة في التاريخ الكردي.
رسم جغرافيا الحياة اليومية في القري والمدن المنسية، حيث الألم أكثر حضورًا من الأمل.
الدفاع عن الهوية الكردية، واسترداد الكرامة التي شوّهتها عصور الذل.
إعادة الحياة إلي تفاصيل يومية بسيطة تحمل في طيّاتها رمزية نضال طويل.
إبراز بطولات النساء الكرديات اللواتي أراد المجتمع نسيانهن.
تصوير الاحتجاجات الشعبية التي واجهت القمع بكرامة وعزة.
تسليط الضوء على النساء الثائرات اللاتي لم يخضعن لسطوة التاريخ الذكوري.
الإصرار على رفض كل أشكال الخنوع، والاعتزاز بالكرداية كقيمة تربوية وأسلوب حياة.
كما تقدّم نموذجين من العائلات الكردية المناضلة التي لم تهزمها السجون ولا المؤامرات. وتستحضر أسماء نساء كرديات نقشن أسماءهن في ذاكرة النضال. ومع ذلك، لا تُخفي گەلاوێژ عتبها على أولئك الذين تخلّوا عن مواقفهم لأسباب شخصية وضحلة؛ لكن هذا العتب ليس مرثيةً علي الأطلال، بل هو نداء لإيقاظ الضمير.
لو قُسّمت هذه التأملات إلي عناوين فرعية، أو أُرفقت بتواريخ دقيقة للأحداث، لكانت أشمل وأعمق، ولكان القارئ ليجد نفسه يتتبّع خيوطها بتفاصيل أشدّ. فهذه النصوص ليست سيرة ذاتية فحسب، بل إشراقات من تاريخ أمة لا تزال تبحث عن ذاتها وسط العواصف.
وفي الختام، لا يسعنا إلا أن ننحني احترامًا لقلم گەلاوێژ، القلم الذي لم ينكسر رغم كل شيء، وهو يحمل همّ الكلمة الكردية في زمن النسيان، ويصنع لها مقامًا يليق بها في مكتبة الكرد.

