كتاب“ما السياسة؟” لحنة أرندت يمثل محاولة فلسفية جذرية لإعادة النظر في معنى السياسة وحدودها. فالسياسة عندها ليست مجرد فن للحكم أو إدارة للمصالح العامة، ولا هي ساحة صراع على السلطة كما يختزلها الفكر التقليدي، بل هي فعل وجودي يتصل بجوهر الإنسان بوصفه كائنًا حرًا قادرًا على الكلام والفعل. في نظرها، السياسة هي المجال الذي يظهر فيه البشر أمام بعضهم البعض، حيث يعبّرون عن ذواتهم ويتفاعلون في فضاء مشترك، ومن ثم فهي فضاء للحرية أكثر من كونها مجرد آلية تنظيمية.
ترى أرندت أن السياسة لا تقوم إلا في ظل التعددية، أي بوجود آخرين مختلفين يشاركوننا العالم. فالتنوع ليس عقبة بل هو شرط أساسي للتجربة السياسية، إذ إنه يفتح المجال للحوار والتفاوض والعيش المشترك. وبهذا المعنى يصبح الآخر المختلف ليس تهديدًا، بل ضرورة لوجود السياسة نفسها. كما تؤكد على أهمية التمييز بين المجال العام والمجال الخاص؛ فالأول هو مجال السياسة والحرية والكلام، بينما الثاني يتعلق بالضرورات الحيوية كالاقتصاد وشؤون العائلة. ومع تلاشي هذا التمييز في العالم الحديث وسيطرة الاعتبارات الاقتصادية على الفضاء العام، انكمشت السياسة وتحولت إلى إدارة تقنية فاقدة لروحها الأصلية.
وتنتقد أرندت بشدة الفلسفة السياسية الغربية التي سعت، منذ أفلاطون، إلى تهميش السياسة باعتبارها فوضى أو صراعًا لا عقلانيًا، مقترحة بديلًا يقوم على النماذج المثالية للحكم أو على السيادة المطلقة. على العكس، تعتبر أرندت أن السياسة ليست وسيلة لخدمة غايات أخرى، بل غاية في ذاتها لأنها تمنح الإنسان معنى في العالم، وتمكّنه من ترك أثر يتجاوز وجوده الفردي عبر المشاركة في الشأن العام. فهي ليست مجرد ساحة للقرار بل مسؤولية مشتركة تجاه العالم الذي نصنعه ونورثه للأجيال القادمة.


