قراءة في المشهد السياسي العراقي
بقلم: عباس عبدالرزاق
منذ 2003 والعراق يعيش تجربة سياسية معقدة يمكن وصفها بأنها مزيج من الديمقراطية الشكلية والسلطوية المقنّعة. فبينما تبدو الانتخابات وسيلة لتداول السلطة، فإن جوهرها يكشف عن وجود منظومة تحكم خفية تتجاوز الصندوق والناخب. هذه المنظومة ليست فردًا أو زعيمًا مطلقًا، بل هي شبكة من القوى السياسية والكيانات الحزبية، تعمل بالتنسيق أو بالصراع على تحديد من يحق له أن يصل إلى مواقع القرار، ومن يجب أن يُستبعد تحت مسميات قانونية أو معايير سياسية.
هذا “المتحكم” الجماعي ليس سوى انعكاس لواقع سياسي يقوم على التوازنات الداخلية المتشابكة والضغوط الإقليمية والدولية، بحيث تتحول كل عملية انتخابية إلى اختبار لمدى قدرة القوى المتنافسة على اختراق الفلتر الذي يفرضه النظام السياسي نفسه.
الفلترة كآلية لإنتاج السلطة
لفهم طبيعة المشهد العراقي اليوم، يجب النظر إلى مفهوم “الفلترة” الذي يحدد مسار العملية السياسية. المقصود هنا أن النظام السياسي لا يسمح بمرور جميع المرشحين والأحزاب إلى مرحلة القرار، بل يُخضعهم إلى سلسلة من الإجراءات القانونية–السياسية التي تمثل أدوات للغربلة.
هيئة المساءلة والعدالة: تُمثل هذه الهيئة أبرز أدوات الفلترة، إذ تتولى التحقيق في ملفات المرشحين واستبعاد من ترى أنه لا يتوافق مع معاييرها. في الانتخابات الأخيرة، وصل عدد المستبعدين أو الخاضعين للتحقيقات إلى 404 مرشحًا، وهو رقم ضخم يكشف عن حجم التأثير المباشر لهذه الأداة على المشهد السياسي.
هيئة النزاهة: بدورها تدخل على الخط، حيث أعلنت عن ملفات تتعلق بـ 278 مرشحًا آخرين، ما يعني أن الاستبعاد لا يقتصر على زاوية واحدة، بل يجري عبر أكثر من بوابة رقابية.
بهذا، نجد أن دخول أي مرشح إلى البرلمان أو الحكومة لا يتوقف على عدد الأصوات التي يحصل عليها فحسب، بل على مدى قدرته في اجتياز هذه المراحل الرقابية–السياسية.
بين القانون والتسوية
ثمة جدل دائم في العراق حول ما إذا كانت هذه الإجراءات تمثل تطبيقًا صارمًا للقانون أم أنها مجرد أدوات سياسية بغطاء قانوني.
في الماضي القريب، كان المسار يعتمد على التسويات السياسية. كانت القوى الكبرى تجلس على طاولة واحدة وتبرم صفقات تسمح بمرور أسماء محددة، حتى لو كانت هناك اعتراضات قانونية أو ملفات معلّقة. التوافق كان سيد الموقف، وكل شيء ممكن ما دام يخدم بقاء التوازن العام.
أما اليوم، فالصورة أخذت منحى آخر. لم تعد التسويات كافية، بل جرى استدعاء القانون كأداة لإضفاء الشرعية على عمليات الإقصاء. لكن المفارقة أن هذا القانون لا يُطبق بمعزل عن السياسة، بل يتداخل معها بحيث يصبح الاستبعاد قرارًا سياسيًا يُغلف بصيغة قانونية.
هذا التحول يعكس إدراك القوى المتحكمة بأن التوافقات وحدها لم تعد قادرة على إدارة المشهد، خصوصًا مع تزايد الضغط الشعبي والدولي للمطالبة بدولة قانون ومؤسسات.
الضغوط الخارجية: اللاعب الخفي
لا يمكن إغفال البعد الخارجي في قراءة المشهد العراقي. فالعراق منذ سقوط النظام السابق يعيش تحت تأثير مزدوج:
- التأثير الأمريكي والغربي: حيث تسعى الولايات المتحدة وشركاؤها إلى ضمان أن أي قوة سياسية لا تتحول إلى تهديد مباشر لمصالحهم الأمنية والاقتصادية.
- التأثير الإقليمي: وبخاصة النفوذ الإيراني الذي يملك أدوات سياسية وعسكرية وإعلامية فعالة داخل العراق، ما يجعل أي عملية انتخابية مرتبطة بشكل أو بآخر بالتوازن الإقليمي.
من هنا، يصبح “الفلتر” الداخلي انعكاسًا لضغوط خارجية تسعى إلى تعديل العراق وفق سيناريوهات مدروسة، بحيث يُمنع صعود أي طرف قد يخلّ بالتوازن المطلوب إقليميًا أو دوليًا.
السلطة كنتاج للغربلة
المشهد العراقي يمكن تشبيهه بمصفاة تمرّ عبرها الأسماء والتحالفات. فالأحزاب الصغيرة قد تجد نفسها خارج اللعبة مبكرًا لأنها غير قادرة على حماية مرشحيها من قرارات المساءلة أو النزاهة. أما الأحزاب الكبرى فتدخل في مفاوضات لتحديد من يُستبعد ومن يُسمح له بالمرور، في عملية معقدة من المقايضة السياسية.
بهذا، لا تكون النتيجة النهائية انعكاسًا لإرادة الناخب وحدها، بل لمعادلة مركبة يشارك فيها القانون، والسياسة، والتدخلات الخارجية.
من الديمقراطية الشكلية إلى السلطوية المقنّعة
يطرح هذا الواقع سؤالًا جوهريًا: هل ما يجري في العراق يمثل تجربة ديمقراطية حقيقية؟ الجواب الأقرب هو أن الديمقراطية العراقية ما تزال شكلية أكثر مما هي جوهرية. فالمواطن يذهب إلى صندوق الاقتراع ويمنح صوته، لكنه لا يملك ضمانًا أن صوته سيترجم إلى مقعد في البرلمان، لأن المرشح الذي اختاره قد يُستبعد قبل أو بعد الانتخابات لأسباب تتجاوز إرادة الناخب.
هذا الوضع يقود إلى ما يمكن تسميته بـ”السلطوية المقنّعة”: حيث يجري استخدام أدوات ديمقراطية (انتخابات، لجان تحقيق، هيئات رقابية) لإنتاج نتيجة محسوبة سلفًا. إنها عملية سياسية تضبط حدود اللعبة، وتسمح بوجود معارضة شكلية، لكنها لا تترك مجالًا لحدوث تغيير جذري في موازين القوى.
خطورة المشهد على المدى البعيد
استمرار هذا النمط يحمل مخاطر كبيرة:
- فقدان الثقة بالعملية الانتخابية: إذ يشعر المواطن أن صوته لا قيمة له أمام الفلترة السياسية.
- تعميق الانقسام المجتمعي: حيث ينظر أنصار المرشحين المستبعدين إلى الأمر باعتباره استهدافًا سياسياً.
- إضعاف الدولة: لأن السلطة الناتجة عن هذه العملية لا تستند إلى شرعية شعبية قوية، بل إلى شرعية مصطنعة تقوم على التوازنات.
إذا كان العراق يسعى إلى بناء دولة حقيقية تستند إلى الديمقراطية، فلا بد من مراجعة عميقة لهذه الآليات. تطبيق القانون يجب أن يكون شاملًا وغير انتقائي، وأن يُفصل عن الحسابات السياسية. كذلك، ينبغي تحييد الضغوط الخارجية بقدر المستطاع، حتى لا تتحول الانتخابات إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية ودولية.
لكن الواقع يقول إن الطريق ما يزال طويلًا، وإن العراق سيبقى لسنوات يعيش تحت وطأة الفلترة والتسويات، ما لم تظهر قوة اجتماعية–سياسية قادرة على كسر هذه الحلقة وفرض منطق جديد للسلطة.

