الكاتب..محمد علي الحيدري
تشكّل المدنية في العراق أحد أكثر الملفات الفكرية والسياسية تعقيدًا، إذ تتقاطع فيها تعددية عميقة بين الطوائف والقوميات والجماعات الثقافية المختلفة في تاريخها وهويتها ورؤيتها للوجود السياسي.
والمدنية، بهذا المعنى، ليست مجرد إطار قانوني أو نظام حكم، بل هي مشروع لإعادة صياغة العلاقة بين الفرد والجماعة والدولة، عبر قاعدة مشتركة من الحقوق والواجبات، تتجاوز الانتماءات الفرعية الضيقة، وتؤسس لعقد اجتماعي يربط الانتماء الوطني بالقيم المشتركة، ويضمن احترام جميع المكونات الدينية والثقافية.
في السياق العراقي، تواجه المدنية تحديات بنيوية متعددة الأبعاد: تداخل الدين بالسياسة: لم تستطع الدولة الفصل الكامل بين المرجعية الدينية ومؤسساتها الحديثة، ما أدى إلى ازدواجية الولاءات واستقطاب مجتمعي مستمر. وهذا الواقع يحتاج إلى صياغة توافقية توازن بين احترام المرجعيات الدينية وضمان حيادية الدولة في إدارة شؤون جميع المواطنين.
ضعف المؤسسات المدنية: الفساد وتدخلات القوى السياسية يضعف استقلالية المؤسسات، ويؤدي إلى فقدان الثقة الشعبية، ويحد من قدرة الدولة على ضمان حقوق المواطنة المتساوية والمساءلة القانونية.
خطاب المواطنة المحدود: غالبًا ما يكرّس الخطاب الرسمي الانقسامات عبر التركيز على الهويات الفرعية، دون تقديم رؤية وطنية جامعة تحتضن التنوع باعتباره رصيدًا استراتيجيًا للتنمية والاستقرار.
الأثر العميق للنزاعات والصراعات: الصراعات المتلاحقة زادت من حساسية الهويات وأججت مخاوف الجماعات من التهميش، ما يجعل الحديث عن المدنية تحديًا يتطلب حساسية سياسية وفهمًا لطبيعة الهوية الدينية والثقافية.
المدنية بهذا الإطار ليست تهديدًا للهويات الدينية أو الثقافية، بل هي الفضاء الذي يسمح بتعدد الهويات ضمن وحدة وطنية متماسكة. تحقيقها يتطلب:
تعزيز التربية المدنية والحقوقية بطريقة تراعي السياق الديني والثقافي، لتأكيد أن الحرية والمساواة والمسؤولية والتسامح قيم مشتركة بين الدين والمدنية.
إصلاح المؤسسات القانونية لضمان استقلال القضاء وسيادة القانون وحماية الحقوق الفردية والجماعية، بما يحمي دور المرجعية الدينية ضمن إطار الدولة المدنية.
حوار وطني شامل يضم جميع الفاعلين والمكونات السياسية والدينية والاجتماعية لبناء رؤية وطنية مشتركة تؤسس لعقد اجتماعي يحترم التنوع.
التركيز على القواسم المشتركة الثقافية والتاريخية والدينية، لتعزيز عناصر الترابط والانتماء الوطني بدل الانقسام.تطوير خطاب سياسي وأخلاقي يستند إلى قيم إنسانية ودينية مشتركة، بحيث يصبح التنوع رصيدًا معرفيًا وأخلاقيًا يعزز صلابة النسيج الاجتماعي.
من منظور أكاديمي وفلسفي، المدنية المنتجّة تتجاوز إدارة الصراع التقليدية لتصبح مشروعًا لإنتاج معنى مشترك للوجود الوطني. فهي تتيح قراءة الهويات ضمن إطار شامل يربط الحقوق بالواجبات، ويحوّل الانتماءات المتعددة من عائق إلى قوة للتكامل الاجتماعي والسياسي.
بناء المدنية في العراق ليس خيارًا ثانويًا، بل شرط وجودي للاستقرار والتنمية، ورافعة أساسية لتأسيس دولة حديثة، قادرة على مواجهة تحديات المستقبل، وحامية للتنوع في إطار الوحدة الوطنية. إن المشروع المدني العراقي يتطلب دمج الإصلاح المؤسسي، وتحويل القيم الفكرية إلى ممارسة اجتماعية، وتوحيد الإرادة الوطنية حول رؤية متجددة، قادرة على تحويل الاختلاف إلى قوة دافعة للنهضة والمواطنة، مع احترام جميع المرجعيات الدينية والثقافية كمكونات أساسية للهوية الوطنية.
المصدر .. جريدة الصباح