أ.م.د. ژینۆ عبدالله
يُعَدّ الرئيس جلال طالباني، إلى جانب الرئيس التركي توركوت أوزال ، أحد المفاتيح الأساسية في إعادة رسم العلاقات بين تركيا وإقليم كردستان، وكان لقاؤهما التاريخي في قصر تشانكايا، بدايةً لمسار جديد. وقد كان الصحفي البارز وذو الخبرة كامران قەرەداغی، هو صاحب الدور الأساس في هندسة ذلك التقارب.
من أبرز مؤلفات قەرەداغی التي صدرت في السنوات الأخيرة، وربما تُعدّ وثيقة تاريخية نادرة، كتاب المذكرات المعنون «ربيع الكرد الدامي – شاهد وشهادات علي الانتفاضة الكردية»، الصادر عن دار المدي عام 2022.
جسر للتواصل بين طالباني وأوزال
الكتاب غني بالشهادات والوثائق والمقابلات المباشرة مع شخصيات سياسية فاعلة في أحداث كردستان. وقد قدّم المؤلف فيه دوره المزدوج كصحفي أولاً وكرجل وساطة ثانياً، إذ كان قناة للتواصل وترتيب اللقاءات بين الرئيس مام جلال والرئيس توركوت أوزال، فضلاً عن تبادل الرسائل والخطط بين طالباني وبارزاني بعد انتفاضة 1991.
وبحسب ما يرد في الكتاب، فإنّ هذه المذكرات أشبه بمقدمة تاريخية لأحداث إقليم كردستان وتحوّلاته الدراماتيكية خلال الفترة (1970–1996): من اتفاقية الحكم الذاتي عام 1970، إلى اجتياح الكويت، وصولاً إلي تفاصيل الانتفاضة الكردية عام 1991، ثم مفاوضات المعارضة مع نظام صدام حسين، فاندلاع الحرب الداخلية وأخيراً كارثة 31 آب.
قەرەداغی ، خريج الأدب الروسي من الاتحاد السوفيتي السابق وصحفي واسع التجربة، يروي بدقة خلفيات الإعداد لأول لقاء تاريخي بين طالباني وأوزال يوم 14 حزيران 1991. حينها كان يعمل مراسلاً لجريدة الحياة اللندنية في أنقرة، وبوساطة المستشار الإعلامي للرئيس أوزال “كايا توبير”، تم إبلاغه بترتيب لقاء سريع مدته عشرون دقيقة. غير أنّ الحوار امتد لساعة كاملة، تخللها نقاش واسع حول أوضاع كردستان وزوّد أوزال بمعلومات مباشرة، مما شكّل لحظة مفصلية كسرت الجمود بين تركيا والإقليم. ومن هنا انطلقت زيارات واتصالات متلاحقة، حتى جرى اللقاء التاريخي المباشر بين طالباني وأوزال، فاتحاً الباب أمام علاقات متينة بين كردستان وتركيا.
الدور البارز جنكيز جاندار
ويُبرز قەرەداغی في مذكراته الدور المهم للصحفي التركي المعروف جَنكِيز جاندار، الذي لعب دور المستشار غير الرسمي لأوزال، وكان قناة خلفية لدفع العملية إلي الأمام. وهكذا جاءت المذكرات ثرية بالمعرفة، لأنّ المؤلف لم يكن مجرد ناقل، بل كان شخصية حاضرة وفاعلة في تفاصيل الملف. أسلوبه في الكتابة، القائم علي دقة السرد وترتيب الموضوعات، يُدخل القارئ مباشرة إلى عمق أحداث كردستان وتحوّلاتها.
كما يذكر المؤلف تجربته الصحفية الممتدة: من عمله في الحياة (1988–1998) إلي إذاعة صوت العراق الحر، مروراً بعلاقاته الوثيقة بالرئيس مام جلال وقادة الصف الأول في كردستان والعراق. وهو يشير أيضاً إلي براعة طالباني في الحوار مع الصحفيين الدوليين، وسرعة تكوين صداقات مع دبلوماسيين وخبراء وأكاديميين في مراكز البحوث الاستراتيجية.
تسامح الرئيس مام جلال
بعد الحرب الداخلية، يروي قەرەداغی أنّ الرئيس مام جلال لم يكن راضياً عن بعض تقاريره التي عكست سلبيات الصراع الداخلي، وأرسل إليه رسائل نقدية حادّة. غير أنّ الأوضاع تغيّرت عندما وصلته رسائل من رئيس الوزراء التركي آنذاك تانسو تشيلر وسليمان دميريل، الداعية إلى تهدئة العلاقات بين أنقرة وأربيل، فاستقبله طالباني لاحقاً في قەڵاچوالان كصديق مقرّب، متجاوزاً الخلافات السابقة.
صدمة الأتراك من رد طالباني
وفي عام 1995، وبعد فترة من الفتور في علاقات تركيا مع الإقليم، بعثت الخارجية التركية برسالتين سريّتين إلى مسعود بارزاني بصفته رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، وإلى الرئيس مام جلال. يذكر قەرەداغی أنّ بارزاني كلفه بالرد علي الرسالة الأولى، بينما كتب طالباني بنفسه رداً مقتضباً في عشر دقائق، سلّمه قەرەداغی إلى الخارجية التركية. وقد جاء الرد قوياً ومباشراً، فأثار دهشة الأوساط السياسية والأكاديمية التركية، حتى إنّ طالباني ظلّ يذكر إعجابه ببلاغة ذلك الرد في لقاءاته اللاحقة.
شهادة على مرحلة مفصلية
لا يسع مقال واحد أن يحيط بكل تفاصيل المذكرات، فهي تتناول بدقة وثائق وأسراراً حول انتفاضة 1991، والمفاوضات مع النظام، ومحاولات إيقاف الحرب الداخلية، إضافة إلي ملفات خاصة بإقليم كردستان خلال عقدين كاملين (1970–1996).
وتكمن قيمة إضافية للكتاب في استعراضه الاجتماعات الحساسة التي عُقدت عام 1993 بين قيادات الصف الأول من الكرد (مام جلال، نوشيروان مصطفي، كوسرت رسول، فؤاد معصوم، مسعود بارزاني، نيجيرفان بارزاني، وعدد من القادة الآخرين) إلي جانب عبدالله أوجلان.
كامران قەرەداغی ، الذي عمل سنتين ونصف مديراً لمكتب الرئيس مام جلال، ثم اعتزل العمل العام عام 2007، خصّص الجزء الثاني من مذكراته لتلك المرحلة في رئاسة الجمهورية.

