سوران الداوودي
منذ عشرينيات القرن الماضي شكّلت القضية الكردية البوصلة التي يمكن من خلالها قياس مدى جدية التجارب السياسية في العراق وتركيا في ترسيخ مبادئ الديمقراطية والتعايش. فالعراق، رغم مرور أكثر من مئة عام على تأسيس دولته الحديثة، لم يعرف مرحلة يمكن وصفها بالديمقراطية الكاملة إلا وكان للكرد فيها دور محوري وأساسي. إذ ارتبطت كل محاولات الانفتاح السياسي والاعتراف بالتعددية بوجود صوت كردي قوي يفرض نفسه كشريك لا يمكن تجاهله.
في تاريخ العراق الحديث، لم تكن هناك تجربة سياسية جدية في الحكم إلا وحضر الكرد فيها. فمع كل حديث عن دستور أو انتخابات أو شكل جديد من المشاركة السياسية، كان الوجود الكردي مؤشراً على مدى جدية المشروع. وهذا ما يجعل القضية الكردية مرآة عاكسة لحقيقة النظام السياسي العراقي، سواء في مراحل الانتفاضة، أو في إقرار الفيدرالية، أو في صياغة الدستور الدائم بعد 2003. الكرد هنا لم يكونوا مجرد مكوّن إثني، بل عامل اختبار لمدى استعداد بغداد لقبول مفهوم المواطنة المتساوية والعيش المشترك
أما تركيا، فقد سارت منذ بداياتها الجمهورية على نهج علماني متأثر بالنموذج الأوروبي الذي بشّر به مصطفى كمال أتاتورك. غير أن هذا النهج ظل ناقصاً ما دام غير قادر على استيعاب حقوق الكرد أو التعامل معهم كعنصر أصيل من مكوّنات الدولة. فالتجربة التركية أظهرت أن الحداثة الشكلية والمؤسسات الديمقراطية الشكلية لا تكفي إذا لم تترافق مع الاعتراف بالحقوق القومية والثقافية للشعوب
المشهد السياسي في تركيا اليوم يكشف عن تحوّل تدريجي، حيث بات الصوت الكردي حاضراً في البرلمان ومؤثراً في المعادلات السياسية الداخلية. لم يعد ممكناً إقصاء الكرد عبر القمع أو الحلول العسكرية وحدها، بل أصبحت المفاوضات السياسية والبحث عن صيغ مشاركة جديدة أكثر حضوراً في الأجندة التركية. وهذا التحول لا يخدم الكرد وحدهم، بل يشكل خطوة ضرورية لتقريب تركيا من المعايير الأوروبية في الديمقراطية وحقوق الإنسان، تلك المعايير التي طالما تبنّتها في خطابها السياسي لكنها عجزت عن تطبيقها عملياً.
القضية الكردية لم تعد شأناً محلياً محصوراً بالعراق وتركيا، بل تحولت إلى ملف إقليمي ودولي. فالعالم يراقب عن كثب كيف ستتعامل هاتان الدولتان مع حقوق الكرد، لكونها باتت مؤشراً على جدية دعواتهما للتحديث والانفتاح. العراق لا يمكن أن يتحدث عن دولة مدنية دون مشاركة الكرد، وتركيا لا يمكنها أن تنال ثقة أوروبا والمجتمع الدولي دون حل عادل لقضيتهم
يمكن القول إن الكرد ظلوا عبر قرن كامل معياراً لمدى جدية مشاريع التعايش والديمقراطية في المنطقة. وفي الوقت الذي تسعى فيه شعوب العراق وتركيا إلى بناء أنظمة أكثر عدلاً وحرية، فإن الشراكة الكردية الحقيقية تمثل حجر الأساس لإنجاح هذه المساعي. إن أي مشروع يتجاهل صوت الكرد أو يحاول إقصاءه محكوم عليه بالفشل، لأن الديمقراطية لا يمكن أن تقوم على الإقصاء، بل على الاعتراف المتبادل والمشاركة العادلة.

