عباس عبد الرزاق
لم يكن العرض الفولكلوري الذي قدّمه طلبة جامعة الامریکیە – سلیمانیة مجرّد رقصة تقليدية تُقام في احتفال عابر، بل كان مشهدًا استثنائيًا يحمل في طياته عمقًا جماليًا ورمزيًا يليق بذاكرة شعب ما زال يعيش آثار المأساة التي خلّفها تنظيم داعش. على إيقاعات الدفوف والخطوات المتناغمة، تشكّل جسد جماعي يروي حكاية المقاومة والحرية، ويحوّل ساحة العرض إلى مساحة للتذكير بما جرى للإيزيديات من سبي وقهر، ثم ما تحقق من تحرير وانعتاق.
لقد استلهم الطلبة عناصر عرضهم من الصور والأفلام الوثائقية التي وثّقت لحظة تحرير الإيزيديات من براثن داعش، مثل الفيلم 10 Years of Darkness: ISIS & The Yazidis وتقارير الفيديو التي بثّت شهادات الناجيات، ومنها هذا التقرير المصوّر من Sky News. في هذه المواد، اختلطت الدموع بالزغاريد، والقيود بالتحرر، واليأس بالأمل. تلك اللقطات المؤثرة، التي ظلّت راسخة في الذاكرة الجمعية، تحوّلت على أيدي الشباب إلى لوحة راقصة تُعيد تمثيل الألم وتُعيد صياغته في صورة جمالية قادرة على لمس الوجدان وتحريك الخيال.

جماليات الأداء
من الناحية الفنية، تميّز العرض بتناغم جماعي لافت؛ صفوف الطلبة شكّلت دائرة تتشابك فيها الأيادي، في إشارة إلى الوحدة والتضامن. الخطوات الإيقاعية لم تكن مجرد حركات فولكلورية مألوفة، بل صارت لغة تعبيرية تحمل رموزًا واضحة: الانكسار ثم النهوض، الانسياق تحت القهر ثم التمرد عليه، الظلام الذي ينقشع أمام إشراقة الضوء. هذا التوظيف الرمزي لحركات الرقص الشعبي يثبت أن الفولكلور ليس موروثًا جامدًا، بل أداة حيّة قادرة على استيعاب القضايا الكبرى.
حدث ثقافي بامتياز
ما يجعل هذا العرض ذا قيمة خاصة هو أنه لم يُقدَّم في فراغ، بل جاء في توقيت سياسي واجتماعي حساس، حيث ما زالت جراح داعش حاضرة في الذاكرة، وما زالت قصص الناجيات من الإيزيديات تشكّل مادة للنقاش والبحث، كما ورد في أفلام مثل Mediha وOn Her Shoulders. بهذا المعنى، يُعد العرض حادثًا ثقافيًا بامتياز، لأنه تجاوز حدود الترفيه الفني ليصبح تعبيرًا عن موقف، بل أشبه ببيان بصري يؤكد رفض الفكر الداعشي وما خلفه من دمار إنساني.

دور الشباب والطلبة
اللافت أكثر أن هذا العمل كان ثمرة مبادرة شبابية. الطلبة الذين نفذوه أثبتوا أن الجيل الجديد لا يكتفي بالاستهلاك الثقافي، بل يسعى إلى إنتاج خطاب فني بديل يواجه التشدد وينحاز للحرية. لقد أظهروا شجاعة فكرية وجمالية، لأنهم اختاروا موضوعًا حساسًا، وقدموا رؤيتهم من خلال لغة الفن، بعيدًا عن الخطب أو البيانات السياسية. إنهم بهذا يرسّخون مكانة الجامعات بوصفها فضاءات للابتكار والتعبير الحر، ويمنحون الأمل في أن الشباب قادرون على صياغة مستقبل أكثر انفتاحًا.
الجدل وردود الأفعال
صحيح أن العرض أثار جدلًا واسعًا وأسال حبرًا كثيرًا في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، حيث اعتبره البعض تجاوزًا للحدود الدينية أو مساسًا بالقيم التقليدية. غير أن هذا الجدل نفسه يكشف قيمة العمل؛ فالفن الحقيقي هو الذي يثير النقاش، ويهزّ المسلمات، ويفتح المجال أمام حوار صريح حول العلاقة بين الدين والفن، بين الحرية والتقاليد، بين الماضي والذاكرة الجماعية. إن أفلامًا مثل Rojek وRashid, the Boy from Sinjar تعكس بدورها هذا التوتر بين الذاكرة الفردية والجماعية، وتؤكد أن الفن والسينما قادران على خوض المعركة ذاتها.
خاتمة
إن عرض الطلبة لم يكن مجرد رقصة، بل رسالة مركّبة: رسالة جمالية تُظهر روعة الفولكلور الكردي حين يُوظف في قضايا معاصرة، ورسالة سياسية–إنسانية ترفض العنف والتشدد، ورسالة شبابية تعلن أن الجيل الجديد حاضر في معركة الذاكرة والحرية. لقد أثبت هذا العمل أن الفن يمكن أن يكون سلاحًا ناعمًا، قادرًا على مواجهة أبشع مظاهر الظلامية، وأن الرقص — وهو أرقى أشكال التعبير الجماعي — قد يتحوّل إلى فعل مقاومة.
مصادر إضافية للقراءة والمشاهدة:
-
Captives on the Frontlines: Yezidi Former Child Soldiers – Amnesty
-
Mediha (وثائقي 2023)
-
On Her Shoulders – فيلم عن ناديا مراد

