عباس عبدالرزاق
تواجه القضية الكردية تحديات معقدة تنبع من التشظي السياسي الناتج عن التقسيم الجغرافي لكردستان عبر أربع دول ذات سيادات مختلفة (تركيا، العراق، إيران، سوريا)، بالإضافة إلى الاختلافات الثقافية واللغوية المتعددة داخل المكون الكردي الواحد . يُعَدُّ هذا التشظي أحد أبرز العوائق التي تحول دون تشكيل مشروع سياسي قومي موحد، إذ تتباين المواقف السياسية بين الفصائل الكردية، وتتفاوت درجات الاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية تبعًا للبيئات الوطنية المختلفة. في هذا السياق، يُشكّل مفهوم البراغماتية الثقافية إطارًا تحليليًا وتطبيقيًا واعدًا قادرًا على استيعاب هذا التنوع والتعقيد، وتوفير آليات للحوار والتفاوض والسياسات المرنة.
أولًا، تؤكد البراغماتية الثقافية على الاعتراف بالتعددية والاختلافات السياسية والثقافية كأصل ضروري للحياة السياسية الفاعلة، لا كعائق ينبغي تجاوزه عبر فرض وحدة شكلية قد تؤدي إلى تفكك أكبر . يتطلب هذا الاعتراف بناء فضاءات حوارية متعددة تسمح للأطراف الكردية المختلفة بالتعبير عن رؤاها وهوياتها ضمن إطار سياسي مشترك يحترم الاختلافات ويحولها إلى قوة دافعة للتعاون والتكامل الجزئي . ومن خلال هذه الفضاءات، تتبلور الذات الفاعلة لكل مجموعة كردية في صياغة مطالبها وحقوقها، متجاوزة النماذج الأحادية والثابتة التي غابت عن فهم تعقيدات الهوية الكردية.
ثانيًا، تشدد البراغماتية الثقافية على أهمية خلق آليات تفاوض متعددة المستويات (محلية، إقليمية، دولية)، تتيح التفاعل بين الفاعلين المختلفين عبر الحدود السياسية والعرقية. هذه الآليات لا تهدف إلى فرض حل سياسي جامد، بل تفتح المجال لتجربة سياسات محلية وثقافية متنوعة وقابلة للتعديل المستمر وفقًا لتغيرات الواقع السياسي والاجتماعي . ومن خلال التجريب السياسي، يُمكن تعزيز مبادرات الحكم الذاتي المحلي، ودعم الشراكات الثقافية العابرة للحدود، التي تعزز الانتماء الكردي المشترك دون إلغاء الفوارق.
ثالثًا، ترتبط البراغماتية الثقافية ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الخطاب السياسي-الثقافي المشترك، الذي يركز على بناء قاعدة حقوق متبادلة ومشتركة تعزز التضامن بين المكونات الكردية المختلفة . يقوم هذا الخطاب على مبدأ العدالة التوزيعية والاعتراف المتزامن، حيث يُعترف بحقوق الأقليات في اللغة والثقافة والتمثيل السياسي، مع ضمان مشاركة فعالة في صنع القرار الاقتصادي والسياسي. وبهذا، تتحول القضية الكردية من نزاع أحادي البعد إلى مشروع تعددي قادر على التفاعل الإيجابي مع التحديات الإقليمية والدولية.
أخيرًا، تُبرز البراغماتية الثقافية أهمية الربط بين الحقوق الثقافية والسياسية والاقتصادية داخل الدول المضيفة، حيث لا يمكن فصل الاعتراف بالهوية عن العدالة الاقتصادية والسياسية. تُشكّل هذه العلاقة أساسًا لبناء مشاريع سياسية مستدامة تعالج مظاهر التهميش والاستلاب الثقافي، وتفتح آفاقًا لتنمية اقتصادية تراعي خصوصية المناطق الكردية . إن تبني هذا النهج البراغماتي يُتيح للذات الفاعلة في القضية الكردية أدوات مفاهيمية وعملية تساعدها على تجاوز معوقات التشظي السياسي والاختلافات الثقافية، وتدفع نحو بناء مساحات سياسية وثقافية ديمقراطية متعددة المستويات، قابلة للتكيف والتطوير المستمر. الأزمة بين إقليم كردستان والحكومة العراقية: قراءة براغماتية
طبيعة الأزمة الراهنة
تتسم العلاقة بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية في بغداد بتوترات سياسية متكررة، نابعة من خلافات على صلاحيات الحكم، الموارد المالية (خاصة النفط)، والتمثيل السياسي (Gunter, 2014). بالرغم من الدستور العراقي الذي يمنح الإقليم درجة من الحكم الذاتي، إلا أن ممارسات التنفيذ وغياب الثقة بين الطرفين أدت إلى أزمة مستمرة، تظهر في تعطيل الاتفاقات والتصعيد السياسي.
نقد الحلول التقليدية
النهج الأحادي الجانب، سواء من بغداد التي تسعى إلى فرض مركزية صارمة، أو من أربيل التي تصر على توسيع صلاحياتها بلا مرونة، فشل في تحقيق استقرار دائم (Natali, 2010). الصراعات القائمة تعكس عدم الاستعداد للحوار المفتوح ورفض التنازلات، مما يغذي دوامة الصراع ويفقد الطرفين فرص التقدم.
مقاربة براغماتية للحل
التجريب السياسي والحوار المتواصل: وفقًا لمبادئ البراغماتية (Dewey, 1938)، يجب تبني نهج تجريبي للحكم المشترك، يسمح للطرفين باختبار نماذج حكم متعددة، تشمل مشاركة موسعة لكن تدريجية في الصلاحيات والموارد، مع تقييم دوري للنتائج وتعديل السياسات حسب الظروف المتغيرة.
بناء الثقة عبر المؤسسات: تكوين مؤسسات حوارية دائمة بين بغداد وأربيل، تركز على القضايا التقنية والمالية لتقليل الاحتكاك السياسي، مع دور مراقبة شفافة تضمن تنفيذ الاتفاقات.
الاعتراف المتبادل والمرونة: ضرورة الاعتراف بحقوق الطرف الآخر في التعبير عن مصالحه ضمن الدولة الموحدة، مع إرساء قواعد مرنة لإدارة الاختلافات بعيدًا عن أحادية القرار.
إشراك المجتمع المدني والفاعلين المحليين: دعم المبادرات الشعبية والثقافية التي تعزز التعايش المشترك والهوية متعددة المستويات، وتقليل التوترات عبر بناء أرضية اجتماعية مشتركة.
التوقعات والتحديات
ينطوي الحل البراغماتي على تحديات كبيرة، منها غياب الثقة الطويل الأمد، التدخلات الإقليمية والدولية، وتحولات القوى السياسية داخل العراق وكردستان. مع ذلك، يوفر هذا النهج إطارًا عمليًا أكثر مرونة وقدرة على التكيف من الحلول الأحادية التقليدية.
توسيع التحليل والمحاور حول الأزمة بين إقليم كردستان والحكومة العراقية من منظور براغماتي
جذور الأزمة التاريخية والسياسية
استعراض تاريخ العلاقة بين بغداد وأربيل بعد 2003، خاصة دستورية الحكم الذاتي لإقليم كردستان، وكيف أن التباينات في تفسير الدستور أدت إلى نزاعات متكررة.
دور القوى الإقليمية والدولية وتأثيرها على العلاقة بين الطرفين، خصوصًا الدور التركي والإيراني والأميركي.
الإشكالية المالية والاقتصادية
الخلاف على حصص النفط والغاز، والموازنة الاتحادية، وتأثير ذلك على الخدمات والتنمية في الإقليم وبقية العراق.
أهمية إدارة الموارد بشكل شفاف ومرن وفق منهج براغماتي يسمح بالتكيف مع المتغيرات الاقتصادية والسياسية.
الشرعية السياسية والتمثيل
الصراع حول التمثيل السياسي داخل المؤسسات العراقية، ودور الأحزاب الكردية في بغداد وأربيل.
كيف يمكن للبراغماتية الثقافية تعزيز مشاركة الذات الفاعلة في تمثيل حقوق الأكراد ضمن الدولة العراقية الموحدة.
الأمن والجيش والحدود
إدارة ملف البيشمركة مقابل القوات الاتحادية، وتأثيره على الأمن الداخلي والإقليمي.
ضرورة التفاوض والتعاون في ملف الأمن كجزء من الحلول العملية القائمة على التفاهم والتجريب.
-
بناء مؤسسات للحوار والتفاوض المستمر
تأسيس منصات حوار دائمة تشارك فيها الأطراف السياسية، الفعاليات المدنية، والقطاع الخاص.
خلق آليات تقييم دوري للاتفاقات والتكيف معها.
-
تعزيز الأفق الثقافي والاجتماعي المشترك
بناء هوية متعددة المستويات تحترم الهوية الكردية ضمن الهوية العراقية الشاملة.
دعم المبادرات الثقافية والتعليمية التي تشجع على التعايش وتقلل من الاستقطاب.
-
دور الفاعلين الإقليميين والدوليين بعيون براغماتية
كيف يمكن الاستفادة من الدعم الدولي والإقليمي في إطار حلول مرنة تراعي مصالح الجميع.
التحوط من التدخلات التي تزيد تعقيد الأزمة.
ملخص تحليلي موسع: الأزمة بين إقليم كردستان والحكومة العراقية ورؤية براغماتية للحل
تُعد العلاقة بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية في بغداد من أكثر الملفات تعقيدًا في المشهد السياسي العراقي، حيث تجمع بين أبعاد دستورية وسياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية وثقافية متشابكة. رغم أن دستور العراق لعام 2005 قد منح الإقليم حكما ذاتيًا موسعًا، إلا أن تفسير هذه الصلاحيات وتنفيذها ظل موضع خلاف مستمر أدى إلى أزمة سياسية متجددة.
الجذور التاريخية والسياسية للنزاع
تعود جذور الأزمة إلى اختلافات جوهرية في فهم وتطبيق الدستور بين بغداد وأربيل، حيث تسعى الحكومة المركزية إلى فرض سيطرة أكبر على الموارد والسياسات، بينما يطالب إقليم كردستان بالحفاظ على استقلالية أوسع. كما تلعب القوى الإقليمية والدولية دورًا مؤثرًا، فتركيا وإيران تراقبان بعين القلق أي تحركات استقلالية، فيما تتراوح مواقف الولايات المتحدة والدول الغربية بين الدعم المحدود والاحتواء.
الإشكاليات المالية والاقتصادية
الخلاف حول إدارة موارد النفط والغاز يشكل حجر الزاوية في النزاع، إذ تعتمد ميزانية الإقليم بشكل كبير على الإيرادات النفطية التي تختلف آليات توزيعها بين الطرفين. كما يعاني العراق من تحديات اقتصادية عامة تتطلب حلولًا شفافة ومرنة، الأمر الذي يفتح الباب أمام اعتماد حلول براغماتية تسمح بإعادة التفاوض المستمر وتعديل التوزيع بناءً على معطيات الواقع.
الشرعية السياسية والتمثيل
يُطرح الصراع أيضًا ضمن إطار التمثيل السياسي، حيث تتنافس الأحزاب الكردية على الهيمنة داخل الإقليم وخارج العراق، ما يؤدي إلى انقسامات داخل المجتمع الكردي نفسه. في المقابل، يواجه الأكراد تحديات في ضمان تمثيل فاعل في مؤسسات الدولة العراقية. من منظور براغماتي ثقافي، فإن تعزيز مشاركة الذات الفاعلة في أطر سياسية متعددة المستويات يشكل أساسًا لإدارة هذه الاختلافات وتحويلها إلى موارد ديمقراطية.
الأمن والجيش والحدود
يُعد ملف القوات الأمنية بين البيشمركة والقوات الاتحادية محورًا حساسًا، حيث يؤثر على الاستقرار الداخلي والإقليمي. الصراعات والتنافس بين هذه القوات تزيد من حالة عدم اليقين. من منظور براغماتي، يمكن بناء آليات تعاون أمنية تجريبية، مع مراقبة وتحكيم مستمرين، لتعزيز الثقة وتقليل الاحتكاك.
بناء مؤسسات للحوار والتفاوض المستمر
يُبرز الملخص أهمية تأسيس منصات دائمة للحوار تشمل جميع الأطراف السياسية، الفاعلين المدنيين، والقطاع الخاص، مع آليات شفافة لتقييم تنفيذ الاتفاقات والتكيف معها. هذه المؤسسات تمثل فضاءات حيوية للتجريب السياسي المستمر وتخفيف حدة النزاعات.
تعزيز الأفق الثقافي والاجتماعي المشترك
تعتبر الهوية متعددة المستويات، التي تحترم خصوصية الهوية الكردية ضمن إطار الهوية العراقية الأوسع، عاملًا مركزيًا في تحقيق التعايش. دعم المبادرات الثقافية والتعليمية التي تروج للتنوع والتسامح يساعد في تقليل الاستقطاب السياسي والاجتماعي.
دور الفاعلين الإقليميين والدوليين بعيون براغماتية
يجب استثمار الدعم الدولي والإقليمي بطرق مدروسة تحقق مصالح الطرفين، مع الحذر من التدخلات التي قد تعقد الوضع. البراغماتية تدعو إلى تقييم مستمر لهذه التأثيرات وتطوير سياسات مرنة تحافظ على مصالح الجميع.
من خلال هذه المحاور، يظهر أن تبني البراغماتية الثقافية يوفر إطارًا متكاملاً قادرًا على استيعاب تعقيدات الأزمة بين إقليم كردستان والحكومة العراقية، ويتيح تصميم حلول سياسية وثقافية واقتصادية قابلة للتجريب والتطوير المستمر. إن هذا النهج يعزز من فرص بناء تعاون مستدام قائم على الاعتراف المتبادل، التفاوض المفتوح، والمرونة السياسية، بما يخدم استقرار العراق ويعزز حقوق الأكراد في إطار الدولة الموحدة.
تحليل براغماتي للأزمة بين إقليم كردستان والحكومة العراقية

