بقلم: د. فؤاد أحمد
مدير مركز أبحاث برلمان إقليم كردستان
منذ إقرار دستور جمهورية العراق لسنة 2005، أُسس النظام السياسي العراقي على قاعدة الفيدرالية الديمقراطية التعددية التي تقوم على توزيع السلطات بين الحكومة الاتحادية والأقاليم، بما يضمن مشاركة جميع المكونات في إدارة الدولة وتحقيق العدالة السياسية والاجتماعية. وفي هذا الإطار، يُعد مجلس النواب العراقي الممثل الأعلى للإرادة الشعبية على المستوى الاتحادي، فيما يشكّل برلمان إقليم كردستان الركيزة التشريعية الإقليمية التي تجسّد خصوصية الإقليم ضمن وحدة العراق الاتحادية.
ورغم وضوح الأساس الدستوري لهذه العلاقة، إلا أن التفاعل المؤسسي بين البرلمانين ظل محدودًا وشبه غائب، وغالبًا ما تأثر بموجات التوتر السياسي بين بغداد وأربيل، الأمر الذي انعكس على مستوى التنسيق التشريعي والرقابي، وأضعف إمكانية بناء تجربة فيدرالية عراقية متكاملة.
إن غياب قنوات التعاون المنتظمة بين مجلس النواب الاتحادي وبرلمان إقليم كردستان يمثل فجوة مؤسسية ينبغي معالجتها على نحو عاجل. فالمؤسستان تمثلان معًا الإرادة الشعبية ضمن بنية الدولة الاتحادية، وكلاهما يتحملان مسؤولية تطوير التشريعات التي تلامس حياة المواطنين في كل أرجاء العراق، دون تمييز بين إقليم أو محافظة.
لقد آن الأوان لأن تنتقل العلاقة بين المؤسستين من التأثر بالمناخ السياسي إلى التأطير المؤسسي المهني، عبر بناء قنوات تواصل ثابتة ومستقلة عن الخلافات الحزبية، بما يعزز التنسيق في صياغة القوانين ومتابعة تنفيذها ضمن إطار الدستور.
يتمتع مجلس النواب العراقي بعضوية فاعلة في العديد من المنتديات البرلمانية الدولية والعربية، مثل الاتحاد البرلماني الدولي، والاتحاد البرلماني العربي، ومنظمة التعاون الإسلامي البرلمانية، والجمعية البرلمانية الآسيوية وغيرها.
وهذه المنصات تمثل فرصة مهمة لفتح آفاق تعاون جديد مع برلمان إقليم كردستان، من خلال إشراك ممثلين عنه ضمن الوفود العراقية الرسمية المشاركة في تلك المنتديات.
إن هذا الانفتاح من شأنه أن يساهم في عرض التجربة التشريعية للإقليم كجزء من التجربة الديمقراطية العراقية الكاملة، ويساهم في توحيد الخطاب البرلماني العراقي في المحافل الدولية، ويعزز صورة العراق كدولة فيدرالية ناجحة ومتوازنة في منطقة معقدة سياسيًا ودينيًا وقوميًا. وبذلك، يتحول النشاط الدولي لمجلس النواب إلى أداة لبناء وحدة داخلية، لا مجرد تمثيل خارجي، ويغدو التعاون البرلماني نموذجًا عمليًا للفيدرالية العراقية.
لتفعيل التعاون البرلماني بين المؤسستين، يمكن اعتماد مجموعة من الخطوات الواقعية والمستدامة، منها:
تشكيل لجنة تنسيقية عليا مشتركة بين مجلس النواب العراقي وبرلمان إقليم كردستان تُعنى بمتابعة القوانين ذات الطبيعة الاتحادية والإقليمية المشتركة.
إشراك ممثلين عن برلمان الإقليم في الوفود البرلمانية العراقية في المحافل الدولية والعربية، لتعزيز التمثيل الفيدرالي المتكامل.
تنظيم مؤتمر وطني سنوي حول “التجربة البرلمانية العراقية في ظل النظام الفيدرالي”، يُعقد بالتناوب بين بغداد وأربيل.
تنفيذ برامج تدريبية وتوأمة مؤسسية بين البرلمانين بدعم من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمؤسسات البرلمانية العالمية.
تبادل البيانات والمواقف البرلمانية المشتركة في القضايا الوطنية الكبرى مثل الموازنة، الثروات الطبيعية، وحقوق المواطنين.
إن العراق، بتنوعه القومي والديني والثقافي، يمتلك المقومات التي تؤهله ليكون نموذجًا ديمقراطيًا فريدًا في المنطقة.
لكن نجاح هذا النموذج مرهون بمدى قدرة مؤسساته الدستورية، الاتحادية والإقليمية، على العمل بروح الشراكة لا التنافس، وبالاحترام المتبادل للصلاحيات ضمن وحدة الدولة والذي لا يصب فقط في مصلحة تعزيز العلاقة بين مجلس النواب وبرلمان إقليم كردستان فحسب، بل يصب في مصلحة العراق بأكمله، إذ يرسخ التجربة الديمقراطية، ويُظهر أن التنوع مصدر قوة وطنية لا سبب خلاف. ومن شأن هذا التعاون أن يكرس مفهوم “العراق الفدرالي الموحد” القادر على حماية مصالح جميع مكوناته، وتقديم نفسه كنموذج حضاري في إدارة التنوع وبناء الدولة الحديثة.
إن تحويل العلاقة بين بغداد وأربيل من سجال سياسي إلى شراكة برلمانية مؤسساتية يمثل نقلة نوعية في مسار التجربة العراقية الفيدرالية.
فالعلاقة بين البرلمانين يجب أن تُبنى على أسس التعاون والتكامل لا على ردود الأفعال، لأنهما معًا يمثلان وجهي الإرادة الشعبية الواحدة في عراقٍ ديمقراطي اتحادي تعددي.
إن هذه الخطوة، إن تحققت، لن تخدم مؤسسات الدولة فقط، بل ستعزز ثقة المواطنين في النظام البرلماني، وتثبت أن العراق قادر على أن يكون نموذجًا في إدارة التنوع، وتجاوز الانقسامات، وبناء دولة فيدرالية قوية في قلب منطقة مضطربة.
المصدر .. صحيفة الصباح