الديمقراطية، أم آلية التغيير وتداول السلطة..؟
د. عدالت عبدالله
عن جريدة الصباح
كلّ النظريات التي تتحدّث عن الديمقراطية ومبادئها الإنسانية والإصلاحية تؤكد، بعباراتٍ صريحة وواضحة، فكرةً مشروعةً وحضاريةً هي: فكرةُ حقّ المشاركة لأيّة قوى سياسية أو اجتماعية، في أيّ مجتمعٍ كان، في إدارة شؤون المجتمع وتنمية الدولة، أو في تكوين الحكومة ومؤسساتها المختلفة.
ولم نرَ قط، في أيٍّ من الديمقراطيات الحقيقية التي احتضنتها العقائد السياسية للمجتمعات البشرية، سياسةً أو ذهنيةً تسعى أو تميل إلى احتكار السلطة، أو قطع الطريق أمام تداول الحكم، أو تغيير تركيبته السياسية. بل على العكس من ذلك، شهدنا خلال العقود الأخيرة تطوّراتٍ كبيرةً طرأت على مفاهيم الديمقراطية ومبادئها، كما لمسنا أنّ مفكّرين وعلماء بارزين في مجالي علم الاجتماع والعلوم السياسية أصبحوا يُنظّرون – بطريقةٍ أكثر عقلانية – لتأسيس ديمقراطيةٍ أرحب وأوسع، تشمل في إطار مبادئها وأهدافها أبعادًا اجتماعيةً في كلّ تنظيمٍ جذري للمجتمعات.
كما تنفتح هذه الديمقراطية انفتاحًا كليًا على الفئات الاجتماعية، وتُرسّخ حقّ المواطنة والمفاهيم المرتبطة بتجسيد هذا الحق وممارسته على أرض الواقع، وهو ما يؤكّد عليه، على سبيل المثال، كل من عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر آلان تورين (1925–2023م) في كتابه ماهية الديمقراطية، وعالم الاجتماع العربي د. برهان غليون في كتبه ودراساته المتعددة.
وهذا يعني، ببساطة، أنّه لا رجعة أبدًا – لا من حيث النظرية ولا من حيث الحق – إلى أيّ خطوةٍ إلى الوراء تُجسّد نظامًا يَعتبِر نفسه ديمقراطيًا، بينما هو في جوهره يناقض مبادئ الديمقراطية. فلا يمكن لأيّ نظامٍ من هذا القبيل أن يكون معقولًا حين يفضّل ما يُفسده ويُهمل ما يُغنيه ويُقوّيه.
إنّ هذه اللامعقولية في الديمقراطية ومسار تطوّرها المفهومي والنظري لا تستثني، دون شك، أيَّ نظامٍ يدّعي أنه ديمقراطي، ولا تقبل أن يتمتّع حكّامه بالسلطة دون التزامٍ بما تُنتجه الديمقراطية من مبادئ وأفكار وأُسس إضافية، هي في الأصل تدعم – إن أُخذت بنظر الاعتبار وتُرجمت إلى أفعال – بقاء الحكّام في مواقعهم الشرعية والسيادية والإدارية، ومواصلة سلطاتهم بطريقةٍ مشروعة لا تهزّها يد.
وبالتالي، لا تُستثنى التجربة العراقية من هذه المعادلة التي لا تسمح، بأيّ حالٍ من الأحوال، بالتراجع عن ممارسة الديمقراطية ومبادئها تحت ذريعة الخصوصية المجتمعية أو عدم نضوج الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية الملائمة للديمقراطية الحقيقية، التي هي – بمعنى من معانيها – لا تدلّ على شيء سوى كونها آليةً للتغيير وتداولًا للسلطة.
ذلك لأن أيّ مبررٍ من هذا القبيل واضحُ العواقب مسبقًا، إذ يُمهّد الطريق، بكلّ سهولة، لإعادة استحضار خطابٍ ديكتاتوريٍّ متسلّحٍ بمسوّغاتٍ باطلة، لا يُراد من ورائها سوى احتكار السلطة وإبقاء البلد على حاله، والانغلاقِ المميتِ على الذات دون أيّ تطوّرٍ أو انفتاح، وهو ما سيؤول في النهاية، تدريجيًا، إلى تقويض التجربة العراقية – لا قدّر الله.

