عباس عبد الرزاق
يشكّل ملف النفط والغاز في إقليم كردستان أحد أكثر الملفات حساسية وتشابكًا بين السياسة والاقتصاد، وبين سلطة الإقليم والحكومة الاتحادية في بغداد. وفي خضمّ هذا المشهد المعقّد، برزت تصريحات رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني بافل جلال طالباني التي أكّد فيها مرارًا أنه «لن يسمح لأحد بالتلاعب بمصادر الغاز»، مبرزًا موقفًا صارمًا في الدفاع عن شفافية إدارة الثروات الطبيعية، في مواجهة ما وصفه بـ”استغلال سياسي” و”فساد حزبي” طال هذا القطاع خلال السنوات الماضية.
تُظهر خطابات طالباني الأخيرة، سواء في المهرجانات الانتخابية أو اللقاءات السياسية، تحوّلاً ملحوظًا في خطاب الاتحاد الوطني الكردستاني نحو التركيز على العدالة الاقتصادية والإدارة المؤسسية للثروات. فقد شدّد في أكثر من مناسبة على أن “العقود النفطية يجب أن تكون معلنة وواضحة للشعب”، داعيًا إلى إشراك المواطنين في الرقابة على موارد الإقليم. هذا الطرح يعكس توجهًا نحو توطين الشفافية كقيمة سياسية ومجتمعية، في مقابل نهج الاستفراد بالقرارات الاقتصادية الذي اتّسمت به بعض المراحل السابقة.
واحدة من أبرز عباراته التي أحدثت صدى واسعًا كانت قوله: “مدّ أنبوب الغاز إلى الخارج سيكون على جثّتي”، وهو تصريح يعبّر عن رفضه القاطع لأي مشروع لتصدير الغاز من دون اتفاق واضح وموافقة من سكان ومؤسسات الإقليم، ولا سيّما في المناطق الواقعة تحت إدارة حزبه في السليمانية وحلبجة. ويستند هذا الموقف إلى مبدأ أن الثروة الوطنية ليست ورقة تفاوض سياسي، بل مورد سيادي يجب أن يُدار بشفافية ويُستثمر لصالح جميع المواطنين لا لمصالح فئوية أو حزبية.
في خطابات أخرى، ذهب طالباني أبعد من ذلك حين قال صراحة إن بعض الشركات النفطية تُدار من قِبل أحزاب وتُستخدم لتحقيق منافع شخصية، محمّلًا هذه الممارسات مسؤولية التراجع في الخدمات العامة وازدياد الفجوة الاجتماعية. هذه العبارات تكشف عن نزعة إصلاحية داخل مشروعه السياسي، حيث يحاول إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والثروة في كردستان، ووضع حدّ لما يعتبره “اقتصاد الظل” الذي يتحكم فيه النفوذ الحزبي أكثر من المؤسسات الرسمية.
سياسيًا، يحاول طالباني من خلال هذه اللغة أن يرسم لنفسه صورة الزعيم “الحامي للثروة العامة”، في مواجهة ما يراه “احتكارًا” من قبل خصومه في الحزب الديمقراطي الكردستاني. لكن خلف هذا التنافس الداخلي، ثمّة رؤية أكثر اتزانًا تتبلور: فطالباني يدعو إلى تنظيم العلاقة النفطية مع بغداد عبر قانون اتحادي واضح، باعتبار أن غياب الإطار القانوني هو ما سمح بانتشار الفوضى والعقود المريبة. ومن هنا جاء ترحيبه باتفاق استئناف تصدير النفط، واعتباره “فرصة لحماية استقرار البلاد وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين”، وهي لهجة تؤكد رغبته في تحويل الخلافات النفطية إلى شراكة مؤسسية بدل الصراع الحزبي.
لا يمكن فصل هذه المواقف عن سياقها السياسي والانتخابي، فطالباني يستخدم خطاب حماية الموارد كمدخل لاستعادة ثقة الشارع في مناطق نفوذ حزبه. ومع ذلك، فإن الطابع الجوهري لمطالبه يعكس رؤية أوسع تتجاوز المنافسة الانتخابية، إذ يدعو إلى إعادة بناء مفهوم “الشرعية الاقتصادية” في الإقليم، بحيث تكون إدارة النفط والغاز شأنًا عامًا يخضع للمساءلة، لا امتيازًا خاصًا تمنحه القوة السياسية لمن تشاء.
إن استدلالات طالباني حول “إنقاذ النفط” و”منع التلاعب بالغاز” لا تُقرأ فقط كشعارات انتخابية، بل كجزء من محاولة سياسية لإعادة تعريف دور الاتحاد الوطني الكردستاني في المعادلة الكردية – العراقية. فحماية الثروة عنده ليست مجرد قضية اقتصادية، بل موقف سيادي يرتبط بكرامة الناس واستقلال القرار الكردي. وبين ضغوط الداخل وتحديات الخارج، يبدو أن طالباني يراهن على خطاب الشفافية والمحاسبة كطريق لإعادة الثقة بين السلطة والمواطن — وهي خطوة إن تحققت فعلاً، قد تشكّل بداية جديدة لإدارة عادلة للثروات في كردستان.