بقلم: عباس عبدالرزاق
في السياسة، كما في التجارة، تكمن الحقيقة أحيانًا خلف التفاصيل الصغيرة. حين تحدّث دونالد ترامب عن العراق قائلاً: «لدينا العراق، لديهم الكثير من النفط، لا يعرفون ماذا يفعلون به»، لم تكن تلك الجملة مجرد تعبير عن فائض الثروة، بل عن فائض الأطماع أيضًا. واليوم، تتردد أنباء في وسائل الإعلام الأمريكية، من بينها تقرير على قناة “فوكس نيوز”، عن خطوة جديدة في إطار خطة ترامب لتوسيع اتفاقات أبراهام، التي تهدف إلى ضمّ العراق إلى مسار التطبيع مع إسرائيل.
لكنّ اللافت في هذا الخبر لم يكن عن التطبيع ذاته، بل عن الشخصية التي اختارها ترامب لهذه المهمة الحساسة: مبعوث جديد للعراق، ليس دبلوماسيًا، بل رجل أعمال من ولاية ميشيغان يعمل في تجارة الحشيش، ويتحدث باللهجة العراقية.
قناة خلفية أم مهمة غامضة؟
هذا التعيين المثير للجدل يعكس أسلوب ترامب المألوف في تجاوز القنوات الدبلوماسية التقليدية واستخدام ما يُعرف في العلاقات الدولية بـ “الدبلوماسية الخلفية”، أي قنوات الاتصال غير الرسمية التي تُستخدم لاختبار النوايا أو تمرير السياسات بعيدًا عن الأضواء.
مصادر سياسية أمريكية أشارت في أكثر من دراسة صادرة عن مراكز أبحاث قريبة من الحزب الجمهوري، مثل مؤسسة هيريتج ومعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، إلى أنّ إدارة ترامب — سواء خلال ولايته السابقة أو في حملته الحالية — تسعى إلى إعادة ترتيب نفوذها في الشرق الأوسط عبر الاقتصاد لا عبر الجيوش، أي من خلال رجال الأعمال وشبكات النفوذ المالي.
ومن هنا، يبدو أن اختيار شخصية عراقية-أمريكية مثل مارک ساڤایا Mark Savaya، يتحدث بلهجة محلية ويمتلك علاقات داخل الجالية العراقية في أمريكا ليس صدفة، بل خطوة مدروسة لتقديم التطبيع بوصفه “مبادرة اجتماعية” لا “إملاءً سياسياً”.
التطبيع عبر التجارة
إذا صحت هذه المعلومات، فالعراق يدخل مرحلة جديدة من اختبار النفوذ الأمريكي — مرحلة أكثر نعومة وأقل علنية.
فالحديث عن “رجل أعمال” بدلاً من “سفير” يشي بأن واشنطن تراهن على الاقتصاد بوصفه مدخلاً للسياسة. إنها النسخة الاقتصادية من الدبلوماسية، حيث تُقدَّم مشاريع الطاقة والاستثمار كغطاءٍ لفتح قنوات سياسية وأمنية لاحقًا. ووفق تقارير بحثية نشرتها مجلات فورين بوليسي وميدل إيست مونيتور، تسعى دوائر قريبة من ترامب إلى توظيف ملف النفط العراقي ضمن مشروع التطبيع الإقليمي، عبر صفقات محتملة لربط شبكات الطاقة العراقية والخليجية بإسرائيل. أي أن التطبيع قد يأتي من بوابة الاقتصاد، لا من بوابة السفارات.
رمزية المبعوث: من الدبلوماسي إلى التاجر
تعبّر شخصية المبعوث المقترح — العراقي الأصل والتاجر في مجال مثير للجدل — عن تحوّل جوهري في أدوات السياسة الأمريكية:
لم تعد واشنطن تراهن على المبعوثين المحترفين، بل على “المبعوثين المفيدين”، أي من يمتلكون القدرة على الاختراق الاجتماعي والاقتصادي، ولو كانت خلفياتهم بعيدة عن الدبلوماسية.
في هذا التحول رمزية أعمق: فالمسافة بين “تاجر الحشيش” و”صانع السلام” لم تعد كبيرة في زمنٍ تُقاس فيه القيم بالمصالح. السلام هنا ليس قيمة سياسية بقدر ما هو مشروع استثماري، تُحدّد معاييره بالربح والخسارة، لا بالعدالة والسيادة.
العراق بين النفوذين
يرى محللون عراقيون أن دخول العراق في دائرة التطبيع سيكون أمرًا معقدًا للغاية، نظرًا لتوازناته الداخلية وحساسية موقعه بين النفوذين الأمريكي والإيراني.
فمن جهة، لا تستطيع بغداد تجاهل الضغوط الأمريكية الاقتصادية والسياسية، ومن جهة أخرى، لا يمكنها مجازفة الانفصال عن المحور الإيراني الذي يملك نفوذًا عميقًا داخل مؤسسات الدولة.
لذلك، فإنّ أي خطوة في هذا الاتجاه ستواجه مقاومة شعبية وسياسية، خصوصًا من القوى التي تعتبر التطبيع خيانة للقضية الفلسطينية.
لكنّ واشنطن — وفق ما يشير إليه بعض الباحثين في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي — لا تسعى إلى تطبيع فوري بقدر ما تعمل على تغيير المزاج العام العراقي عبر أدوات ناعمة: المال، الإعلام، والمشاريع المدنية.
سلام أم نفوذ؟
يبقى السؤال الأهم:
هل جاء هذا “المبعوث التاجر” ليصنع السلام فعلاً، أم ليُعيد ترتيب النفوذ الأمريكي في العراق بثوبٍ جديد؟
الإجابة، حتى الآن، غير واضحة. لكن المؤكد أن واشنطن تعود إلى العراق ليس عبر القواعد العسكرية أو السفراء الرسميين، بل عبر رجال الأعمال والمشاريع الرمادية التي تخلط السياسة بالاقتصاد، والنفوذ بالشراكة.
وإذا كان النفط في الماضي سبباً للحروب، فقد يصبح اليوم أداةً لتطبيعٍ بطيء، تُرسم خرائطه خارج بغداد، لكن تُنفّذ داخلياً بأيدٍ عراقية تحمل جوازاً أمريكياً.
وفي النهاية، يبدو أن العراق — بثروته الهائلة وموقعه الاستراتيجي — لا يزال الساحة المفضلة لتصفية الحسابات الإقليمية، حيث تتحوّل الدبلوماسية إلى تجارة، والسلام إلى صفقة، والمبعوث إلى تاجر نفوذ.
المصادر والمراجع
1. Fox News Report on Middle East Peace Plan Expansion – 2025.
2. The Washington Institute for Near East Policy – “Iraq’s Role in Post-Abraham Accords Diplomacy” (Policy Brief, 2024).
3. Heritage Foundation – “Trump’s Middle East Economic Doctrine: The Business of Peace” (Research Paper, 2023).
4. Foreign Policy Magazine – “Economic Normalization as a Tool for Regional Integration” (Issue: July 2024).
5. Middle East Monitor – “Iraq and the Silent Axis of Normalization” (Report, February 2025).
6. Council on Foreign Relations (CFR) – “US Influence and Iranian Power in Iraq: Between Oil and Diplomacy” (Study, 2024).
-
مقابلات وتحليلات مع باحثين عراقيين في الشأن السياسي (مركز البيان للدراسات والتخطيط – بغداد، 2025).

