عباس عبدالرزاق
(كثير منه للناس وأحيانًا لنفسي أكتب)، الکاتب لا يضع مقدّمة تقليدية، بل يحدّد منذ البداية موقعه الوجودي من الكتابة: هو الكاتب الذي يتوزّع بين الواجب الجمعي والبوح الفردي، بين الخطاب الجماعي للناس والصوت الداخلي للذات. بهذه الجملة وحدها يُعلن الكاتب طبيعة نصّه: نصٌّ بين الذاكرة والسيرة، بين التقرير والاعتراف، بين التاريخ والوجدان.
المكان كذاكرة حيّة
الطريق من السليمانية إلى خانقين ليس مجرد مسافةٍ جغرافية في النص، بل رحلة في الزمن والوجدان.
في كلّ محطةٍ يتوقف عندها السارد، ينبعث وجه، أو صوت، أو صورة من الماضي: الشهيد آزاد هورامي، مام درويش، محمود مام عزە ، أحمد بانيخيلاني، هيرو خان…هذه الأسماء ليست تفاصيل عرضية، بل هي ركائز للذاكرة الكردية الحديثة، شخصياتٌ تنبثق من التاريخ لتؤكد استمرارية الوعي الوطني. يمزج الكاتب الجغرافيا بالروح: فدربنديخان ليست بحيرةً فقط، بل مرآة للحزن والجفاف والانتظار، وبانيخيلان ليست أرضًا زراعيةً فحسب، بل رمزٌ للتجذر والخصب، بينما تتحوّل خانقين إلى مركزٍ روحيٍّ للنضال والانتماء.
الحنين كقوّة سردية
ينتظم النصّ على إيقاع الحنين. ليس حنينًا عاطفيًا ساذجًا، بل حنينٌ ناضج، يدرك أنّ ما مضى لا يعود، لكنه يستعاد كقيمة ومعنى. يقول الكاتب وهو يستحضر طفولته وأعياد خانقين:
(كلّ لونٍ من ألوان بساتينها ملأ قلبي فرحًا كطفلٍ وجد أمَّه بعد غياب ) بهذه الصورة يربط بين الانتماء والمهد، وبين الذاكرة والولادة. العودة إلى خانقين ليست عودة سياسية فحسب، بل عودة إلى الأمّ الكبرى — الأمّ التي تحتضن أبناءها الشهداء والأحياء معًا.
الواقعي والأسطوري
يمتاز النصّ بتداخل الواقعي والرمزي.
الكاتب يصف حملة انتخابية واقعية، يشارك فيها فعليًا، لكنه لا يتوقف عند الشعارات أو الأرقام، بل ينزاح إلى التأمل في معنى الأرض والناس والموت والانتماء. حين يزور مقبرة الشهداء في خدر زنده، يستدعي عبارة غابرييل غارسيا ماركيز:
( لا تنتمي إلى أرضٍ حقًّا إلا إذا دفنت فيها موتاك )
بهذا الاقتباس ينتقل النصّ من الواقعي إلى
الميتافيزيقي؛ فالموت هنا ليس نهاية، بل تثبيتٌ للهوية، وموتُ الشهداء هو الذي يمنح الأرض شرعيتها.
الزلزال كرمز داخلي
يذكر الكاتب هزّة أرضية حدثت أثناء اجتماعٍ سياسي في خانقين، فيروي كيف اهتزّت الأرض تحتهم ولم يتركوا مقاعدهم. تبدو الحادثة بسيطة، لكنها في بنيتها الرمزية تشبه الهزّات التي تهزّ الذاكرة الجمعية والشخصية معًا: زلزالٌ خارجي يقابله زلزالٌ داخلي في الروح. إنه تذكير بأن الثبات وسط الاهتزاز هو امتحان الوجود نفسه.
الذاكرة السياسية والإنسانية
النصّ مفعمٌ بتفاصيل الذاكرة الحزبية والسياسية، لكنه لا يتحوّل إلى دعاية. فالسارد لا يمدح حزبًا بقدر ما يرصد مسار وعيٍ جمعي تشكّل من تضحياتٍ طويلة. وحين يذكر قول مام جلال الطالباني:
( إما كركوك وخانقين، أو نواصل القتال ) فهو لا يقتبس شعارًا، بل يضعه في سياق وجداني، بوصفه ميثاقًا روحيًا بين الأرض وأبنائها.
الأسلوب والبنية الفنية
من الناحية الأسلوبية، يقوم النصّ على السرد المتقطّع المتّصل؛ حيث يتنقّل الكاتب بين أمكنة وأزمنة دون فواصل صلبة. تتحرك الجمل بإيقاعٍ شبه موسيقي، يعتمد على تراكم الصور والاستعادات.
اللغة بسيطة، لكنها مشحونة بطاقةٍ عاطفية عالية، تجمع بين السرد التقريري والتعبير الشعري.
وفي ختام النصّ، يُلقي الكاتب اعترافه الهادئ:
( كثير مما كتبتُه لكم، وبعضه لي… أشياء كثيرة تحت جلدي، أودعها في عالمي الداخلي، بعيدًا عنكم، قريبًا من نفسي».
إنها خاتمة اعترافٍ حميم، تُحوّل النصّ من شهادةٍ جماعية إلى تطهيرٍ شخصي.
البنية الدلالية: الكتابة كفعل توازن
يمكن النظر إلى النصّ كله بوصفه محاولةً للتوازن بين الواجب الجمعي والاعتراف الفردي. الكاتب ينتمي إلى الناس، إلى الحزب، إلى الأرض، لكنه في الوقت نفسه يبحث عن ذاته وسط هذا الانتماء الكثيف. الكتابة عنده ليست فقط وسيلة للتوثيق، بل أيضًا طقسٌ للتصالح مع الذات والتاريخ.
( كثير منه للناس وأحيانًا لنفسي أكتب )، ليست مجرد عبارة افتتاحية، بل مفتاح النصّ وجوهره. فكل كتابة تُوجَّه إلى الآخرين تُخفي خلفها ظلّ كاتبٍ يكتب ليرى نفسه، ليحاور ذاكرته، ويقيس المسافة بين من كان ومن صار. نصّ عيماد أحمد هنا هو يوميات الذاكرة الكردية المعاصرة، وفي الوقت ذاته اعتراف هادئ لكاتبٍ يكتب كي يتذكّر، لا كي يُقنع.