(فرست عبدالرحمن مصطفى)
في الشرق الأوسط حيث تتقاطع المصالح كما تتقاطع خطوط النار، لم تعد السياسة فنّ الممكن بقدر ما أصبحت لعبة البقاء. هنا يُقاس الذكاء بقدر ما تستطيع أن تُخفي نواياك وتُقاس الخيانة بقدر ما تنكشف خططك. كلّ شيء مباح إذا خدم الغاية حتى لو كانت الغاية على حساب الحقيقة والوطن.
في كوردستان كما في غيرها من زوايا الشرق المنهك، تتخذ السياسة وجوهاً متعددة تتبدل بتبدّل المصالح، وتتلون بلون الكرسي الذي يجلس عليه القائد. فهناك من يرى المساومة شجاعة، ومن يرى المصافحة مع الخصم حنكة، ومن يرى ذات الفعل خيانةً وغدراً حين لا يكون هو طرفها.
إنها ازدواجية النظر إلى الفعل السياسي حين يمارسه القائد بنفسه فهو دهاء سياسي، وحين يمارسه خصمه يصبح طعنة في الظهر. وهكذا تدور عجلة الاتهامات بلا توقف، لا لأن الفعل يختلف بل لأن الفاعل يختلف.
وفي خضم هذا المشهد المربك يبرز أولئك الذين يتلاعبون بعواطف الشعب كأنها أوراق انتخابية، يرفعون الشعارات حين يحتاجون الجماهير، ثم يطوونها حين تنتهي الحاجة. يذرفون دموع الوطنية أمام الكاميرات بينما يوقّعون خلف الأبواب اتفاقات المصالح الضيقة.
يُحرِّمون على الآخرين ما يُحلّونه لأنفسهم ويُصدرون فتاوى الخيانة في وجه كل من يخالفهم الرأي، كأن الوطنية حكرٌ على أفواههم وكأن الشعب طفلٌ يُخدَع كل مرة بالعبارات ذاتها.
إن أخطر الخيانات ليست تلك التي تُمارَس ضد الخصوم بل تلك التي تُمارَس ضد وعي الناس. حين يُختطف الأمل وتُغتصب الثقة ويُباع الإيمان بالوطن في أسواق الدعاية الانتخابية، فهذه هي الخيانة التي لا تُغتفر.
في كوردستان تُكتب التحالفات على أوراقٍ رطبة تمحوها أول موجة من المصالح وتُلقى الوعود في الهواء كأنها غبار انتخابي سرعان ما يتلاشى بعد أن يهدأ الصخب. يُرفع شعار “المصلحة العامة” لتغطية كل صفقة خاصة، ويُتلى اسم “الوطن” على كل طاولة مفاوضات كأن الوطن مجرد ورقة مساومة بين المتخاصمين.
السياسة هنا لا تعرف الودّ إلا بقدر ما تقتضيه الضرورة ولا تعرف العداوة إلا حين يشتد التنافس على السلطة. إنها حلبة يتصارع فيها الطموح والذاكرة، والمواطن هو المتفرج الدائم الذي يدفع ثمن تذاكر الدخول والخروج من جيبه وصمته.
ما بين “السياسة” التي يدّعونها و”الخيانة” التي يتهمون بها بعضهم، تضيع الحقيقة… تضيع إرادة الناس ويُختزل الوطن في معادلة من المقاعد والمناصب، وكأن الديمقراطية صندوق اقتراع بلا ضمير والقيادة شعار بلا روح.
وربما آن الأوان لأن يُعاد تعريف السياسة، لا كفَنٍّ للخداع بل كفَنٍّ للصدق، لا كطريق إلى السلطة بل كوسيلة إلى العدالة.
فالأوطان لا تُبنى بالمكر بل تُبنى بالمواقف… ولا تُصان بالمناورة بل تُصان بالنية الصادقة والضمير الحيّ.

