الكاتب: إحسان المفتي
وقفة مع الزمن
تمهيداً لكتابة وقفة مع الزمن، توقفنا عند هذه الصورة لنعيد ذكريات لحظة فارقة في مسيرة أحد أبرز المفكرين الكرد. إنها لحظة تجمع بين الماضي والحاضر، بين الذكريات العطرة والمواقف التاريخية التي صنعت شخصية استثنائية.
في لقاء حميم على مائدة غداء في بيتنا بأربيل، بدعوة من شقيقي عدنان المفتي، جلسنا مع المفكر والكاتب والسياسي الكردي مسعود محمد، لينفتح ينبوع الذكريات، ولتكون لكل جملة وكل حدث قيمة تاريخية تستحق التوثيق.
البداية: حين تفتحت آفاق التفكير
يعود بنا الأستاذ مسعود إلى نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، حين حل ضيفاً في جناح الضيوف في قرية باداوة لإكمال دراسته الإعدادية، إذ لم تكن هذه المرحلة متوفرة في كويسنجق آنذاك. وقد طلب والده الملا محمد جلي زادة من ملا أفندي أن يبقى ابنه في ضيافته لإكمال الدراسة في أربيل.
يروي لنا الأستاذ مسعود بحماس ملحوظ: “في هذه الفترة في أربيل، رأيت لأول مرة مطبوعات وجرائد صادرة من القاهرة وبيروت”. كانت تلك اللحظة الفارقة بداية تفتح آفاق تفكيره واهتماماته بقراءة الكتب الحديثة، وكأن نافذة انفتحت على عالم جديد من المعرفة والثقافة.
يضيف مسعود محمد بنبرة حنين: “تلك السنوات التي قضيتها في قصر باداوة لم أكن أحس بأنني غريب، بل كان الإحساس كأنني في بيت عمي. لقد تفتحت عيناي لأول مرة على الكتب والصحف والمجلات الصادرة في بغداد وعواصم الدول العربية”.
ثم يصف القرية بدقة من يحمل المكان في ذاكرته: “كانت القرية تتكون من مجموعتين من بيوت الفلاحين، والقصر يبعد بعض الشيء عنهما. كنت لا أبتعد عن القصر إلا بموافقتهم، وفي بعض الأحيان كنا نمشي بجوار في ماء الكهريز الذي يغذي البستان الكبير المحيط
بالقصر. وهناك توطدت الصداقة المتينة مع السيد عز الدين ملا أفندي ووالدك رشاد المفتي، وبسبب كِبَرهما مني بضع سنوات كانت معاملتهما معي في القرية كشقيقهما الأصغر.
هذه الوقفة التي تجمع الروابط والمواقف بين أسرتينا في أربيل وكويسنجق، تستحق أن تُروى بتفاصيلها، لتبقى شاهداً على علاقات إنسانية عميقة وعلى بدايات مفكر كبير.
ذكريات باداوة جمعتنا معاً
في تلك الجلسة التي دامت لعدة ساعات في بيتنا، ورغم فارق الزمن بين جيلنا وجيل الأستاذ مسعود محمد الممتد لعدة عقود، إلا أن قرية باداوة وذكريات المكان وروابط الصداقة بين الأسرتين كانت ينبوعاً لا ينضب من خزينة الذكريات. كان ضيفنا يسأل عن شخصيات وأحداث ويستفسر عن أمور بقيت عنده من غير جواب..
كان وصفه لتفاصيل قصر باداوة والقرية والبستان أكثر منا دقة، وكأنه يراها أمام عينيه. الحديث كان ينتقل بسلاسة بين ذكريات الماضي وأوضاع الحاضر التي تمر بها كردستان، حيث كان الاقتتال بين الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني همه الرئيسي. كان يُبدي أسفه العميق لشقيقي عدنان، الذي كان آنذاك مسؤولاً لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني في مدينة أربيل، ولما وصل إليه الحال من تبخر لأحلام الملايين.
مسيرة حياة حافلة
ولد مسعود محمد عام 1919 في مدينة كوية من عائلة متدينة ومتعلمة، وأكمل دراسته الإعدادية في هولير عام 1940، ثم تخرج من كلية الحقوق في بغداد عام 1945 ليعمل محامياً.
مثّل أهالي كوية في البرلمان العراقي خلال عامي 1953 و1954، وبعد ثورة 14 تموز 1958 أصبح عضواً في لجنة الإصلاح الزراعي، حيث ساهم في تشريع قانون إصلاح الزراعة والري الذي نُشر في 30 أيلول 1958. وفي عام 1964 تولى منصب وزير دولة في حكومة طاهر يحيى ممثلاً لحركة التحرر الكردستانية حتى عام 1965.
في نهاية الستينيات عُيِّن عضواً في مجلس الخدمة العام، ثم أصبح في السبعينيات رئيساً لمنتدى المعلومات العراقي – القسم الكردي، منبراً ثقافياً مهماً لنشر الوعي والفكر الكردي.
المفكر والمثقف
كان مسعود محمد مفكراً ومثقفاً كردياً بارزاً، درس فلسفة هيغل وماركس بعمق وطبّقها على الواقع الكردستاني الاقتصادي والاجتماعي. تميز بأسلوب كتابي فريد يركز على جوهر المضمون دون الانشغال بالشكليات، فكان مستعداً لكتابة مائة صفحة تحت عنوان واحد أو حتى بلا عنوان، مؤمناً بأن القيمة الحقيقية تكمن في المحتوى لا في القالب.
ساهم بشكل كبير في تعزيز الثقافة الكردية من خلال أعماله الأدبية والفكرية، وكان من المدافعين الأشداء عن حقوق الشعب الكردي. كما عمل على تعزيز العلاقات الثقافية بين الكرد والشعوب الأخرى، وأثرى المكتبة الكردية والعربية بمؤلفات قيمة لا تزال مرجعاً للباحثين والمهتمين.
العودة والختام
عاد مسعود محمد إلى أربيل بعد انتفاضة 1991، تلك المدينة التي احتضنته طالباً في شبابه، لتحتضنه مجدداً في خريف عمره. بقي فيها حتى وافته المنية في مستشفى رزكاري بتاريخ 1 نيسان 2002، ودُفن في اليوم التالي بجانب والده في مقبرة الدرويش خضر في كوية، المدينة التي ولد فيها وإليها عاد ليستريح .—–
وهكذا، تبقى ذكريات جناح الضيوف في قصر باداوة شاهدة على بداية رحلة مفكر كبير، انطلق من نافذة صغيرة على المعرفة ليصبح أحد أعلام الفكر الكردي. وتبقى تلك الجلسة في بيتنا بأربيل جسراً يربط بين جيلين وعائلتين، وشهادة على أن العلاقات الإنسانية النبيلة تتجاوز الزمن وتبقى خالدة في الذاكرة.

.* احسان المفتى مع المفكر الكوردى العراقى الكبير مسعود محمد ، حيث جمعهم ذكريات قرية (باداوة )وحديث عن حاضر، كوردستان ومستقبلها، أربيل عام 1995
.

