خاص للمسرى
بدل رفو – النمسا
لم أكن أعرف أن للمدن قلوبًا حقيقية، حتى وصلتُ إلى المدينة القديمة في شفشاون.
هناك، حيث الأزقة تلتفّ حول بعضها مثل أذرع أمٍّ تحرس طفلها، شعرتُ أنّ المدينة تعانقني، وتهمس لي بلغةٍ لا يتقنها إلا من ضاعت منه مدن كثيرة ثم وجد مدينة واحدة تعيده إلى نفسه، وتعيد طفولته الحزينة بوجهٍ آخر… إنها شفشاون
دخلتُ الأزقة بلا خريطة، فالجغرافيا لا تحتاج إلى ورق حين يمسك الجمال بيدك!

كلّ بابٍ أزرق كان يفتح نافذةً في صدري، وكلّ جدارٍ مطليّ بلون البحر كان يعلّمني درسًا جديدًا في الهدوء،
كنتُ أتنفس الأزقة كما يتنفس شاعرٌ ورقةً بيضاء، وأمشي ببطء كأنني أخشى أن أدوس على ظلٍّ أو ذكرى.

البيصارة… طبقٌ يدفئ الروح قبل الجسد
في أحد الأزقة العابقة برائحة الخشب والرطوبة الطيبة، وجدتُ مطعماً صغيرًا يقدم البيصارة. جلستُ على مقعدٍ واطئ، وطلبتُ صحنًا.
حين ارتفعت رائحة الزيت والكمون والبهارات، شعرتُ كأن أمي في كوردستان تطهو لي، ويا لها من لحظات خالدة. حينها أدركتُ أن الأوطان ليست أماكن فقط… الأوطان أحيانًا حساءٌ ساخنٌ في صباحٍ بارد، يقدّمه رجلٌ مغربي طيب يبتسم للغريب كأنه ابنٌ ضائع،

وبعدها تعرفتُ على أشهر الطباخين وأطيبهم، ومنهم مصطفى التلمبوطي وعبد اللطيف النادي، في أجمل ركنٍ من زرقة السماء.
بين لقمةٍ وأخرى، كنتُ أتأمل الوجوه حولي. كان فيهم من لا يعرف اسمي، لكنه يعرف أنني مسافرٌ يبحث عن دفء وهذا يكفي.
المغاربة كما عرفتهم دائمًا، يمنحون قلبهم قبل أن يمنحوا خبزهم، ويفتحون مدنهم كما يفتحون بيوتهم، وعشتُ معهم أجمل لحظات الحياة وما زلنا على اتصال.

تكريم المواطنة الفخرية… زرقة تكتب اسمي
لم أتوقع أن يمنحني أهل المدينة المواطنة الفخرية. حين كنت جالساً وراء منضدتي ألقي محاضرة حول أدب الرحلات في احتفالية توقيع كتابي العالم بعيون كوردية، وبجانبي الشاعر الكبير د. عبد الجواد الخنيفي في فناء دار الثقافة في الهوتة، شعرتُ أن زرقة شفشاون تضع وشاحًا على كتفي.
تقدّم الأستاذ محمد السفياني (عمدة المدينة)، رجلٌ طيب ومثقل بالوقار، ووضع الشهادة بين يديّ وقال
“أنت لم تزرنا… أنت عدتَ إلينا. انطلق إلى العالم وارجع لنا، فأنت واحدٌ منا”
توقفتُ لثوانٍ طويلة، لم أعرف هل من حقي أن أشعر بكل هذا الفخر!
لكنّ العيون التي كانت تنظر إليّ بحنانٍ شديد جعلتني أصدّق أنّ هناك مدنًا تتبنّى المسافر، لا لأنه شاعر، بل لأنه يشبهها في شيءٍ لا يُرى.
وقلتها مع نفسي: شفشاون… مدينةٌ تمشي إليك قبل أن تمشي إليها

لم تكن شفشاون بالنسبة إليّ مجرد مدينة جديدة أضيفها إلى دفتر رحلاتي، بل كانت مدينة تُدخلك إليها على مهل، كأنها تريد أن تتأكد أولاً من أنك جئت إليها بقلبك لا بقدميك. منذ اللحظة التي ظهرت فيها البيوت الزرقاء على سفح الجبل، شعرتُ أن شيئًا دافئًا يتحرك في صدري، كأن هذه المدينة تعرفني من زمن بعيد، وقررت أن تستقبلني مثل صديق عاد بعد غياب طويل.
الأزرق الذي يشبه وعدًا قديمًا… وحلمًا… وطفولة
دخلتُ أول الأزقة من باب السوق، ففاجأني الأزرق المنتشر في كل مكان: أبواب زرقاء، جدران زرقاء، درجات سلالم تميل إلى الزرقة، وحتى الهواء بدا وكأنه يحمل ظلالًا منها.

ما لم أكن أتوقعه هو أن هذا اللون لن يتعبني، بل سيمنحني راحة لا أستطيع تفسيرها. الأزرق في شفشاون ليس طلاء، إنه شعور يشبه وعدًا قديمًا لم يتحقق في مكان آخر، وها هو يتحقق هنا ببساطة ساحرة.
كنتُ أمشي ببطء، أتأمل الأبواب الخشبية الصغيرة، وأتوقف عند كل نافذة، وكأنني أدخل حياة جديدة من خلالها. كنتُ أبتسم دون سبب، وربما دون انتباه. هناك مدن تحرك قدميك… لكن شفشاون تحرك روحك.

ساحة وطاء الحمام… قلبٌ نابض بالسكينة
وصلتُ إلى ساحة وطاء الحمام. ضجيجٌ خفيف، حياة تتحرك بلا صخب، رجال يجلسون في المقاهي، نساء يعبرن بخطوات مطمئنة، سياح يلتقطون الصور، وأطفال يلعبون كما لو أن الزمن لا يُلاحقهم.
جلستُ في مقهى صغير يواجه القصبة. قدّم لي النادل كأس شاي بالنعناع (الأتاي)، وقال بابتسامة مغربية أصيلة
“مرحبا بك… هنا ترتاح الروح!”
كان محقًا، فمنذ أول رشفة، شعرتُ بأنني أضع أعباء السفر جانبًا.
دخلتُ القصبة وتجوّلتُ بين أشجارها ونوافذها المطلة على الساحة. لم تكن هناك حاجة لأن أقول شيئًا، فالصمت في هذا المكان لا يطلب شريكًا… بل يطلب قلبًا يستمع.
رأس الماء… ماءٌ يعيد إلي طفولتي
واصلتُ السير نحو رأس الماء، حيث يتدفق الماء من قلب الجبل. صوت المياه كان قويًا ونقيًا، يشبه أصوات الوديان في بلادي التي غادرتها منذ سنوات طويلة.
اقتربتُ من النبع، ووضعتُ كفيّ في الماء البارد. شعرتُ بارتجافة خفيفة، كأن الماء يستعيد من داخلي شيئًا ضاع مع الزمن.
راقبتُ النساء يغسلن الأغطية، ورأيتُ السياح يجلسون على الصخور، وشاهدتُ أطفال شفشاون يلعبون ببراءة
كل هذا المشهد جعلني أشعر أنني لستُ غريبًا. هناك أماكن تطمئن إليها قبل أن تعرفها… ورأس الماء واحد منها.
مخيم أزيلان… المكان الذي يطلّ من القلب على المدينة
عدتُ في المساء إلى مخيم أزيلان. هذا المكان وحده يكفي لأن يجعلك تعشق المدينة. من الأعلى تبدو شفشاون هادئة، كأنها تستعد للنوم، وتترك مصابيحها الصغيرة تضيء ليل التلال.
جلستُ أمام خيمتي الزرقاء، وأخذتُ أراقب الأضواء تتلألأ على سفح الجبل المقابل للمخيم الذي أحببته بصدق، وأقمتُ فيه احتفالية توقيع ديواني لالش بالقرب من خيمتي التي غدت اتحاد ادباء وفنانين، حبًا في المخيم والعاملين فيه
كانت الريح باردة وناعمة، والليل صافيًا إلى درجة تجعلُك تسمع نبضك بوضوح. لم أكن أفكر في شيء محدد، كنت فقط أتنفّس، وهذا وحده كان كافيًا لأشعر بأن رحلتي لم تكن هروبًا من العالم… بل كانت عودة إلى نفسي.
صباح بنكهة خبز شفشاون
في الصباح التالي، نزلتُ وحدي نحو الأزقة نفسها التي مشيتُ فيها أول يوم، لكنها لم تكن كما كانت، الهدوء مختلف، الضوء مختلف، والمدينة تبدو وكأنها تستيقظ على سعادتها الخاصة.
مشيتُ بلا هدف، أتأمل القطط الصغيرة التي تتمدد قرب الأبواب، ورائحة الخبز الخارج من نافذة مجهولة، وأصوات الناس وهم يبدؤون يومهم بطمأنينة مدهشة، والقهوجي عبد الحكيم الشيعة أمام المقهى.
فهمتُ حينها أن الجمال في شفشاون ليس في الأزرق فقط، بل في التفاصيل الصغيرة التي تمنح يومك معنى.
الوداع الذي لا يشبه الوداع

