أ.م.د. ژینۆعبدالله
بمناسبة افتتاح متحف الشاعر الكبير (شێركۆبێكەس ١٩٤٠- ٢٠١٣)، سنحت لي فرصة زيارته مرتين، أولاهما لترتيب مراسم إطلاق النسخة المطبوعة الجديدة من رواية «أسطورة كلي ناو گردان» للكاتبة سيدة گەلاوێژ، والثانية جولة أعمق بين أروقة المتحف. ولأنني قارئٌ قديم لهذا الشاعر الذي أغنى لغتي الكوردية وفتح أمامي معجمًا واسعًا من الكلمات والصور، ولدت في داخلي رغبة في كتابة هذه السطور.
يظهر شێركۆبێكەس في المشهد الكوردي كواحد من أهم الأصوات التي حملت الشعر إلى مرحلة جديدة. بدأ صوته يشتد منذ الخمسينيات، متأثرًا بحركة الشاعر الكبير عبدالله گۆران(١٩٠٤-١٩٦٢)، ثم اكتملت ملامح تجربته في السبعينيات، ليصبح لاحقًا من أبرز من شكّلوا ملامح الشعر الكوردي الحديث. لم يكن شاعرًا عابرًا، فقد أمضى ثمانيةً وخمسين عامًا من حياته في خدمة الكلمة، وترك أكثر من أربعين كتابًا بين شعر وترجمة وسرد وكتابات للأطفال. وقد منحته هذه الرحلة الطويلة خبرة جعلته واحدًا من أغنى التجارب في الثقافة الكوردية الحديثة.
تجربة شعرية
يتّسم شعر شێركۆبێكەس بسعة رؤية تمتد إلى تفاصيل الحياة الصغيرة وقلقها الكبير. استطاع أن يمزج بين الفكرة العميقة واللغة اللامعة، وأن يحوّل المشاهد اليومية إلى صور تبقى في الذاكرة. كان شعره نافذة يطلّ منها القارئ على العالم، ويجد فيها مساحة للتفكير والدهشة.
وقد أعاد شێركۆ تعريف كثير من الثوابت، إذ واجه المحظورات بقوة الجمال وجرأة الكلمة، وجعل من القصيدة وسيلة لاكتشاف الذات، وليس مجرد وعاء للقول.
كان قريبًا من الناس لا من النخب، صوتًا للشارع ولوجدان الجموع. ولذلك صارت قصائده جزءًا من الذاكرة الكوردية، تُقرأ في الفرح كما في مواجهة الظلم، وتظلّ قادرة على إشعال الأسئلة التي تمسّ حياة الإنسان.
اللغة
لم تكن اللغة عند شێركۆ وسيلةً للتعبير فحسب، بل كانت عالمًا كاملاً.لغة مشبعة بالرمز، نابضة بالإيقاع، ومنفتحة على التجريب والتجديد. آمن أن الشعر لا يصف العالم كما هو، بل يعيد خلقه. لذلك جاءت لغته ثورة صغيرة داخل كل قصيدة، توازنٌ بين الجمال والوضوح، وبين البساطة الفنية والأفق الواسع.
وبهذا الأسلوب، أصبحت لغته علامة خاصة به، يمكن للمتلقي أن يتعرّف عليها من أول سطر.
الصورة الشعرية
في تجربة شێركۆبێكەس، تحتل الصورة الشعرية مركز القصيدة.
ليست وصفًا جامدًا، بل طاقة تخييلية تتحول إلى مشهد حي. فقد سجّل عبر صور قوية مآسي الأنفال، وفتح عبر أخرى نافذة على المنفي والذاكرة والحنين. كانت الصورة عنده امتدادًا لذاته وتجربته، أكثر من كونها تقنية بلاغية.
أسلوب
امتلك شێركۆ أسلوبًا فريدًا، ظلّ وفيًا له طوال مسيرته، فالقارئ يتعرّف على قصيدته من اللحظة الأولى، من طريقة البناء، من نبض الجملة، ومن شكل القالب الفني. القصيدة عنده ليست فكرة تُقال، بل إحساس يُعاد بناؤه داخل القارئ. وهذا الجمع بين الإنسان والفن هو ما يمنح تجربته هذا العمق.
الخطاب الشعري
بعد سنوات من التجريب، اتجه شێركۆ إلى خطاب شعري أكثر وضوحًا وقوة، مستفيدًا من الأسطورة والحكاية والسيرة. أراد لرموزه أن تكون شفافة، ودلالاتها واضحة، لأن قصيدته موجّهة للجميع، للقارئ البسيط، وللقارئ المتخصص، ولمن يعيش داخل كوردستان أو خارجها.
خطابه الشعري ينطلق من تجربته الخاصة، لكنه سرعان ما يتجاوزها ليصبح صوتًا قوميًّا يدافع عن شعب عاني طويلًا. وفي سنواته الأخيرة، نضج هذا الخطاب ليصبح رؤية إنسانية رحبة، تدعو إلى الحرية والعدالة والمشاركة.


