الجزء الأول
الفصل الأول:
المقدمة والخلفية النظرية
شهد الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين موجات متعاقبة من التحولات الجيوسياسية، كان أبرزها انهيار النظام الإقليمي التقليدي بعد 2011 وبروز مراكز قوى بديلة داخل الدول، وتدخلات دولية مباشرة، وتغيّر شكل السلطة السياسية في معظم عواصم المنطقة. وقد أصبحت سوريا، منذ اللحظة الأولى، مركز هذا التحول.
فلم تعد الأزمة السورية مجرد نزاع داخلي، بل تحولت إلى ساحة اشتباك كبرى بين الولايات المتحدة وروسيا، وبين تركيا وإيران، وبين القوى المحلية المتصارعة. وعلى خلفية هذا المشهد المعقد، جاء حدث غير متوقع ليفتح الباب أمام مرحلة سياسية جديدة: زيارة أحمد الشرع – الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية – إلى واشنطن ولقائه كبار مسؤولي الإدارة الأمريكية.
تجاوزت الزيارة دلالاتها البروتوكولية، وأصبح لها أثر بنيوي في إعادة تصميم المشهد السياسي الإقليمي. وكان أكثر الأطراف تأثراً بها هي تركيا التي فوجئت بما يشبه “زلزالاً سياسياً” داخل مؤسساتها الحاكمة والمعارضة على حد سواء. إذ لم تكن أنقرة تتوقع أن تعترف واشنطن بهذا الشكل السريع بالسلطة الانتقالية في دمشق، ولا أن يترافق الاعتراف مع رسائل مباشرة حول مستقبل قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، ومستقبل الشرق السوري، والتوازنات الكردية – التركية.
من الناحية النظرية، تمثل زيارة الشرع حدثاً نموذجياً لما يسميه علماء العلاقات الدولية بـ “التحول النظامي المفاجئ” Systemic Shock، أي تحرك مفاجئ من قوة كبرى (الولايات المتحدة) يؤدي إلى إعادة تشكيل توقعات الأطراف الإقليمية. وتصف الأدبيات هذا التحول بأنه “تغيير في قواعد اللعبة السياسية” (Game-Changer)، حيث لا تكون قوة الحدث في ذاته، بل في تداعياته المتراكمة وما يخلّفه من فراغات استراتيجية. و تركيا كانت مركز هذا الفراغ.
فمنذ 2016، بنت أنقرة سياستها تجاه سوريا على أساس ثلاث فرضيات ثابتة: أن واشنطن لن تدخل في تسوية سياسية حقيقية مع دمشق. أن قوات قسد هي قوة مؤقتة قابلة للتفكيك. أن دمشق ضعيفة بما يكفي لعدم تهديد النفوذ التركي في الشمال.
زيارة الشرع نسفت الفرضيات الثلاث دفعة واحدة.
إذ بدا واضحاً أن واشنطن تريد: ( اعترافاً دولياً بسلطة انتقالية سورية؛ و تحويل قوات قسد إلى شريك سياسي دائم؛ و منع أي تدخل عسكري تركي كبير شرق الفرات؛ و إعادة ترتيب المشهد الإقليمي بمنظور أمريكي جديد. ومن هنا ولد الارتباك التركي.
الفصل الثاني:
السياق السياسي قبل زيارة الشرع
لفهم تأثير الزيارة، لا بد من العودة إلى البيئة السياسية التي سبقتها. فقد كان المشهد العام يتجه نحو نوع من الجمود الاستراتيجي:
سوريا: سلطة انتقالية تبحث عن شرعية دولية
تقدم السلطة الانتقالية التي تشكلت بعد ترتيبات داخلية معقدة نفسها بوصفها “بديلاً سياسياً” للنظام السابق، وتسعى لفتح قنوات مع القوى الكبرى. إلا أنها كانت تفتقر إلى نافذة اعتراف دولي واضحة، وهو ما وفّرته زيارة الشرع.
الولايات المتحدة: إعادة التموضع بعد عقدين من التردد
بعد الانسحاب من أفغانستان والحروب الطويلة في الشرق الأوسط، أعادت واشنطن التفكير في سياستها تجاه سوريا. ووجدت أن أفضل طريقة لحماية نفوذها شرق الفرات هي: الاعتراف بسلطة دمشق الجديدة،
تطوير العلاقة مع قوات قسد، استخدام الملف الكردي كورقة ضغط على تركيا وإيران.
تركيا: هواجس أمنية قديمة – محدثة
تتعامل أنقرة مع الملف الكردي كقضية وجودية. وترى في أي تشكيل كردي مسلح على حدودها تهديداً مباشراً. لذلك اعتمدت على القوة العسكرية لتكريس “منطقة آمنة” تمنع قسد من التمدد. و لكن المشكلة الأساسية أن تركيا اعتمدت على تفاهمات غير ثابتة مع الولايات المتحدة وروسيا، وهذه التفاهمات لم تعد صالحة بعد التحرك الأمريكي الأخير.
القوى الكردية: بين واشنطن ودمشق
قسد وجناحها السياسي كانت منذ سنوات تبحث عن اعتراف سياسي صريح من واشنطن.
زيارة الشرع منحتهم هذا الاعتراف بطريقة غير مباشرة: واشنطن تعترف بسلطة تفاوض مع دمشق.
دمشق تقبل بالحوار مع القوى الكردية. وتركيا تجد نفسها خارج الطاولة مؤقتاً.
الفصل الثالث:
لماذا أحدثت الزيارة هذا الزلزال السياسي في أنقرة؟
لأنها كسرت الخط الأحمر التركي الأول: الاعتراف بقسد ، كانت واشنطن تتجنب لسنوات منح قسد شرعية سياسية، وتكتفي بالعلاقة العسكرية.
لكن بعد الزيارة، تغير الخطاب الأمريكي من “قوة محلية مؤقتة” إلى “شريك محلي يجب البناء عليه”.
هذا التحول وحده كفيل بإحداث ارتجاج سياسي داخل تركيا.
لأنها قرّبت واشنطن من دمشق الجديدة
تركيا كانت تراهن على استمرار القطيعة الأمريكية
السورية. لكن القطيعة انتهت.
لأنها فتحت باباً محظوراً: ملف عبدالله أوجلان
اندفع دولت بهتشلي، زعيم القوميين الترك، ليعلن في البرلمان:( إذا لم تذهبوا أنتم إلى إمرالي فسأذهب أنا!)
هذه العبارة ليست عرضية. إنها تعكس خوف الدولة التركية من أن تصبح دمشق وواشنطن هما الطريق الوحيد لحل الملف الكردي، بينما يتم تهميش أنقرة.
لأنها أثارت هاجس الفيدرالية شرق الفرات
تداول فكرة الفيدرالية على مستوى مراكز أبحاث غربية
يعتبر لدى الدولة التركية خطاً أحمر قد يدفع إلى تدخل عسكري.

