د. خالد حسين
لا تنتظم مكونات الخطاب بمختلف أصنافه إلا وفق منطق عميق يتحكّم بخرائط هذا الخطاب وتوزيعه على شتّى متطلبات الواقع، بمعنى أن الخطاب يعكس لنا ماهية هذا المنطق المتحكم بأوصال النتاج الخطابي، وهذا ما يسمح للقارىء، وللقارىء ــ النقدي بصورةٍ أعمق، أن يراقب عن كثب المرجعيات التي يستند إليها منطق الفكر في إنتاج الخطاب. من جهةٍ أخرى يكشف الخطاب الحواري بصورةٍ أسهل من المعتاد عن نوازعه ومشاغله ووفق أي منطق جرى انتساجه. وفي هذا الصّدد يلفت انتباه القارىء حوار للسيد محمد إسماعيل (رئيس المجلس الوطني الكردي ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني ــ سوريا) حول الشأن الكردي، وفق منظور السيد إسماعيل، في سوريا وامتداداته وعلاقاته بما يشمل أو يمسّ الممارسة السياسية في روݘافا وعفرين والسلطة الإرهابية الماكثة في دمشق وكذلك العلاقة مع الآخر: الدروز، العلويين …إلخ…استناداً إلى ما تقدّم تحاول هذه القراءة الاشتباك مع هذا الحوار في حدود إمكاناتها المعرفية في إطار الفكر السياسي وضمن روح المناقشة التي لا أخرج شخصياً عن أطرها في كتاباتي برمتها ومهما كانت طبيعتها توصيفاً وتحليلاً.
لا ينزاح حوار السيد محمد إسماعيل عن الفكر اليومي الملتبس في صيغته التداولية بمعنى أنه يقع ضمن مجالات المتوقع تراجعاً فيما يخص الرأي الكردي الشعبي الذي أراه متقدّماً في الدرجة والقيمة والتعاطف مع قضايا الآخر. ولكن دعونا في هذا الشروع انعطافاً نرى كيف ينظر السيد إسماعيل إلى الذات والعلاقة مع الآخر والمشروع القومي:
[نحن سوريون وتهمنا مصلحة وطننا، ولكن من الممكن أننا نولي جل اهتمامنا لشعبنا نظراً إلى المظالم التي تعرض لها. وربما انشغلنا عن إصدار بيانات بخصوص المناطق السورية الأخرى، وما تعرض له أبناء تلك المناطق من صعوبات، لكن هم أيضاً تغافلوا عما تعرضنا له وانشغلوا بمناطقهم ولم ينتبهوا لما وقع علينا من مظالم، لكننا نؤكد أننا سوريون بقدر ما نحن قوميون كرد، ولن نشكّل قلقاً لدول الجوار، ولكن المجلس الوطني الكردي في سوريا له مشروع قومي كردي، ولن يسلم قضيته لأحد، ولن نعمل مع أحد. نحن نتعامل مع الكل، ولكننا نحن أصحاب قضيتنا ونحن مسؤولون عنها، وسنحقق آمال ومطالب شعبنا لأنهم قدّموا الكثير من التضحيات].
هكذا؛ يشترط السّيد إسماعيل، من جهة أولى، في التعاطف مع الآخر، وهنا يقصد الدروز والعلويين في محنتهما على ما يُفهم من سياق حواره، بموازة تعاطف هذا الآخر مع الكرد، نظراً لأنّ هذا التعاطف المشروط، أو التعاطف بموازاة التعاطف، وفق السيد إسماعيل، يخرج عن كونه تعاطفاً إنسانياً لكونه مشروطاً، فالتعاطف مع “الآخر” يتعالى على “المصلحة” والاشتراط قطعاً، ومن ثمّ ينزاح عن خصوصيته الإنسانية ليكتسب له مكانةً في سجّل اقتصاد المقايضة، الخاضع لمنطق النفعية أو البراغماتية الغريب عن حاسة التعاطف الإنساني أصلاً وفصلاً. ومن جهة ثانية، وما زلنا في ثنايا المقبوس أعلاه، يمضي السيد إسماعيل بقوةٍ في تضاريس الفكر الملتبس [لكننا نؤكد أننا سوريون بقدر ما نحن قوميون كرد]، فكيف يمكن للكرد، بوصفهم سوريين، أن يتعاطفوا مع سوريٍّ آخر يتعرّض في عقر فضائه المكاني إلى حالات إبادة، على غرار تلك التي تعرّض لها الكرد أنفسهم في عفرين أو سر كانية (رأس العين) أو في أحداث معروفة أخرى، بشروط المقايضة؟ لاريب أن هذه المقايضة تدفع بخطاب السيد إسماعيل، وفي هذا الظرف العصيب الذي تمرّ به سوريا، إلى هوّة التناقض المريع وتضعه شخصياً إزاء مسؤولية أخلاقية قاسية تجاه الآخر السوري المنكوب! فإذا كان الكرد سوريين فينبغي وفق المنطق السياسي ـ الإنساني أن يكون تضامنهم مع “المظلوم” غير مشروط إنسانياً ووطنياً، فالتعاطف هنا يدعم الحساسية القومية لدى الكرد بل يزيد من منسويها وليس العكس، فالحسّ القومي الذي يفتقد إلى الحس الإنساني يمثّل صنفاً من الفاشية القومية! وهنا، وبعكس خطاب السيد إسماعيل، تمكن الإشادة بحاسة التعاطف الإنساني بقوّة لدى الشارع الكردي في الوقوف بجسارةٍ وشجاعةٍ مع ما تعرّض ويتعرّض له العلويون والدروز من محنة بكلّ ما تنطوي عليه من حرق وخطف وقتل يومي حتى هذه اللحظة!
ومن جهة ثالثة؛ يندفع الخطاب إلى لجّة الالتباس والتناقض واللامنطق حين يتحدّث رئيس المجلس الوطني عن كون الكرد قوميين وسورين في الوقت ذاته؛ لكنهم لن يشكّلوا قلقاً لدول الجوار (أي تركيا)، غير أن تركيا الأردوغانية تضيق ذرعاً باسم “الكرد” فكيف بمشروعهم القومي؟ يتابع السيد إسماعيل في المقبوس ذاته: [ولكن المجلس الوطني الكردي في سوريا له مشروع قومي كردي، ولن يسلم قضيته لأحد، ولن نعمل مع أحد]، وهنا يمكن أن نطرح سؤالاً ساذجاً على تخوم كلام السيد إسماعيل: ما طبيعة المشروع القومي للمجلس الوطني الكردي الذي لن يقلق تركيا ـ أردوغان؟ بكلّ بساطة يمكنني القول، ودون تعقيد في التحليل التوصيفي، إنّ كلّ شيء يتعلّق بالكرد، ومن أية جهةٍ كردية، ومهما كان بسيطاً، يقلق العثمانية التركية الجديدة ويفزغها! فما بالك بهذا المشروع القومي الكردي (ما ماهية هذا المشروع الغريب وبماذا يختلف عن المشروع القائم في روجافا أو في إقليم كردستان ــ العراق؟ هل هو أكثر من فيدرالية أو كونفدرالية أو دولة؟ لا يفصح الحوار عن هذا المشروع مع العلم أنّ المجلس الوطني الكردي كان ضمن ائتلاف المعارضة الإخواني السيء الصيت، ومن ثمّ لم يخرج عن تعاليم المظلة التركية. وبذلك فإنَّ كلام السيد إسماعيل عن المشروع القومي ضرب من التناقض الفجّ). بيد أنّ ما يتدفق من تتمةِ الخطاب يقطع النّفس بغرابته [ولن يسلم قضيته لأحد، ولن نعمل مع أحد]! يدرك السيد إسماعيل، وبوصفه في مركز القرار السياسي، لا يمكن لمشروع سياسي أنّ يتكلّل بالنجاح ما لم يُختبر وما لم يجر العمل بشأنه مع الآخرين، وبخاصة أنّ السّرديات الكردية بخصوص المشروع القومي في خطوطها العريضة متماثلة في الطرح، ولذلك أتساءل من باب الفضول عن خاصية الاختلاف التي تميّز مشروع المجلس الوطني الكردي للكرد في سوريا؟! ومع ذلك لنتابع التقدّم خطوة أخرى [نحن نتعامل مع الكل، ولكننا نحن أصحاب قضيتنا ونحن مسؤولون عنها، وسنحقق آمال ومطالب شعبنا لأنهم قدّموا الكثير من التضحيات]؛ لاريب أنَّ الضمائر الدّالة على [نحن] واضحة على مستوى الإحالة إلى (المجلس الوطني الكردي)، لذلك من الحقّ بمكانٍ أن نسأل المعنيين عن إنجازات هذا المجلس طوال المدة الماضية وحتى اللحظة الراهنة؟
أما في سياق “تقييم عمل الحكومة السُّورية الجديدة منذ السُّقوط وطبيعة العلاقة معها” فيرى رئيس المجلس الوطني الكردي أن موقفه (أو موقف المجلس الوطني الكردي) إيجابي من سلطة الجولاني لكنها تماطل في مناقشة حقوق الشعب الكردي “بسبب أمور تقنية”، لا يفصح السيد إسماعيل كالعادة عن هذه العوائق الفنية وإنما يطلق عبارات عامة، من مثل أن هذا الأمر “يثير القلق لدى الشعب الكردي” ثم يردف [ولكننا لن نبقى مكتوفي الأيدي، ولدينا خيارات]. إنّ القاصي والداني يدرك تمام الإدراك أنّ هذه السّلطة التي نمت جذورها في مستنقعات الإرهاب وقويت لم تقدّم شيئاً للسوريين حتى الآن وهي تمارس اللعب على الوقت؛ لكي تترسّخ لتتحول إلى سلطة دكتاتورية على غرار سلطة البعث العفن في كلّ من سوريا والعراق، بل أسوأ منهما كونها تتكىء على رؤية دينية عروبوية مقيتة في النظر إلى المكوّنات السورية من كرد وعلويين ودروز…إلخ. بيد أننا لسنا على معرفة بالخيارات المزعومة التي يحوزها “المجلس الوطني الكردي” في مواجهةِ مماطلة السلطة الراهنة لمناقشة الحقوق الكردية، فمن المعروف أن هذا المجلس يعاني العطالة على المستوى العملي ولم يتوقّف عن إنتاج المواقف المغلوطة عبر التحالف مع جماعة الإخوان المسلمين التي قادت هيئة الائتلاف؛ بمعنى أنّ “الخيارات” التي يتحدّث عنها السيد إسماعيل ليست سوى كلام فضفاض لايستند إلى أرضية صلبة. ثم يتابع رئيس المجلس الوطني الكردي حواره بتصريح يفتقد إلى الكثير من التأمل والمنطق السياسي:
[واليوم نحن لسنا معارضة، ويدنا ممدودة للحوار، والتفاوض، ومطالبنا، واضحة. قسم من شعبنا التابع لـِ “قسد” هم من المعارضين ولا نتفق معهم حول تعاملهم مع الدروز في السويداء والعلويين في الساحل وبعض المسائل الأخرى. نحن مع الحوار والتفاوض ولم نعلن أنفسنا كمعارضة وإذا أصبحنا كذلك فسنعمل لأجل قضية شعبنا الكردي ليس لأجل الدروز.. مع احترامنا الشديد لأهلنا الدروز وتضحياتهم].
إن مشكلة السيد إسماعيل ليست مع هذه السُّلطة، القائمة على مجموعات ذات تاريخ إرهابي مريع، وبما تقوم به من خطف النساء وممارسة القتل والحرق ليس في السّاحل والسّويداء وإنما قبل ذلك في “عفرين” ولايزال الأمر على المنوال ذاته، أقول إنّ مشكلته الأساسية على ما يظهر تتركّز في الخلاف مع قِسْمٍ ــ بل في الحقيقة مساحات هائلة ــ من “الكرد” تابع لقسد حول تضامن هؤلاء مع محنة “الدروز” و”العلويين”! فبدلاً من أن يُثمّن السيد إسماعيل الموقف الإخلاقي المتقدّم للكرد في التضامن مع سوريين من دروز وعلويين، وهذا دَيْدَنُ الكرد عبر تاريخهم الطويل وثوراتهم العظيمة، نجده يأخذ عليهم هذه القيمة الأخلاقية العليا في التضامن مع سوريين أُخِذُوْا على حين غرّة! هذا الموقف الملتبس لمسؤول كردي يفتقد إلى التأمل السياسي، بل إن رئيس المجلس الوطني يُدخل خطابَهُ في مأزقٍ لا يُحسد عليه حينما يُزيح ذاته من موقع المعارضة لسلطةٍ إرهابيةٍ، لم تسمح حتى اللحظة لأهل عفرين بالعودة لبيوتهم. وإذا ما سنحت الفرصة للمجلس أو للحزب اللذين يرأسهما أن ينتهج المعارضة: [فسنعمل لأجل قضية شعبنا الكردي ليس لأجل الدروز..]. إن هذا الكلام لا يعبّر إلا عن مغازلة فاشلة وغليظة الفحوى لسلطة الإرهاب من أجل الحصول على بعض الفتات في نسيان كامل للمسألة الديمقراطية في سوريا، فلا أهمية لأية حقوق كردية ما لم تأخذ مكانها في دستور مُنجز وفق صيغة ديمقراطية ــ علمانية، وهي الصيغة التي تتضاد مع البنية الذهنية للسيد إسماعيل على ما يبدو، ومن ثمّ فأيّ محاولة بلهاء للمطالبة بحقوق الكرد لا تتقاطع وتواشج مع حقوق المكونات السّورية في الفدرالية يمثّل نقصاً في الوعي السياسي بامتياز وافتقاداً للرؤية الوطنية. ولكن لا أُدرك مَنْ أخبر السيد إسماعيل أن الدروز يحتاجون إلى أمثاله من أجل الحصول على حقوقهم!!
وهنا يمكننا، بموازاة هذا الموقف غير المسؤول، أن نستحضر موقف قيادة قسد في الآونة الأخيرة ــ ولاسيما بعد الدعم المعنوي الكبير الذي تلقته من الزعامة الكردية في إقليم كردستان ــ العراق ــ : “[أكد الجنرال مظلوم عبدي القائد العام لقوات سوريا الديموقراطية (قسد)، اليوم الأحد، أن الاتفاق مع الحكومة السورية الانتقالية لن يكتمل قبل معالجة القضايا الجوهرية المتعلقة بالدستور وشكل الحكم وحقوق المكونات السورية، ومنها حقوق الشعب الكردي. (…) ولفت القائد العام لقوات سوريا الديموقراطية، إلى أن المفاوضات مع دمشق يجب أن تضم ممثلين عن مختلف الطوائف والمناطق، بما في ذلك الدروز والعلويون، لضمان الوصول إلى اتفاق شامل يدعم الاستقرار/ موقع سوريا وأحوالها بتاريخ 23. 11. 2025]، سأدع أمر المقارنة بين الخطابين للقارىء الكريم لاستخلاص النتائج المترتبة، وأنتقل إلى محور آخر في الحوار. إلى ذلك، وبخصوص هذا المحور، لا يعدم حوار السيد إسماعيل امتداح الحكومة الراهنة بشكل لا لبس فيه:
[توالت أربع إدارات على الشعب الكردي في البداية إدارة الحكومة السورية (النظام البائد) وبعدها إدارة حكومة الإنقاذ ومن ثم إدارة الحكومة المؤقتة والإدارة الذاتية. الحكومة الحالية مقبولة مقارنة بالإدارات الأخرى، التي كانت تمارس الفساد. لكن يمكن القول إن تجربة الحكومة الحالية أفضل من تجارب الإدارات الأخرى].
من غير المنطقي ألا يكون رئيس المجلس الوطني الكردي على معرفة دقيقة بطبيعة السّلطة الراهنة في دمشق وفسادها وسرقاتها وانتهاكاتها في السَّاحل ومحافظة السّويداء وكذلك الانتهاكات التي تجري يومياً في “عفرين” في ظلها من قِبَلِ فصائل الجيش اللاوطني وعلى مرأى من القوات التركية والأمن العام، غير أن السيد إسماعيل بخلاف كل المراقبين ومنظمات حقوق الإنسان والسياسيين الحياديين يرى في هذه المفاسد، في هذه الفوضى، في هذه الانتهاكات الجسيمة التي تضرب الفضاءات الواقعة تحت سيطرة هذه الحكومة جملةَ محاسن تميز تجربة “الحكومة الحالية”! فما الذي يدعو رئيس المجلس الوطني الكردي أن يتعامى عن قراءة واقعية للمشهد السياسي في سوريا الراهنة ولاسيما أنّ سلطة دمشق تجنّد مرتزقة داعش وفصائل الجيش اللاوطني من أجل هزيمة قوات قسد، لتمارس ما مارسته في الساحل والسويداء من أهوال وفظائع بحق المدنيين، فكيف له أن يرى السلطة الحالية على أنها الأفضل مهما كان الخلاف عميقاً مع الإدارة الذاتية؟ أسئلة كثيرة تنبثق بعد الانتهاء من هذا الحوار ولماذا هذا الغياب المحزن للبصيرة السياسية الكردية، بل للمنطق الواقعي في هذا الظرف الشائك والعويص.
***
ملاحظة:
ـــ الحوار أجراه سلام حسن وهو بعنوان: الديمقراطي الكردستاني(سوريا): لدينا مشروع قومي ولن نسلم قضيتنا لأحد، صحيفة المدن اللبنانية، ت 23. 11. 2025.

