عقد حزب المساواة وديمقراطية الشعوب (DEM Party) مؤتمراً السبت تحت عنوان (المؤتمر الدولي للسلام والمجتمع الديمقراطي)، ألقيت فيه عدة كلمات، منها كلمة الرئيس بافل طالباني مسعود بارزاني.
وقُرأ ويسي أكتاش كلمة زعيم حزب العمال الكوردستاني عبد الله أوجلان، التي اكد فيها ان نضال الكورد، المستمر منذ 52 عاماً، قد أنهى حرب البقاء والشرف، ودخل الآن مرحلة يُعاد فيها بناء الجمهورية الديمقراطية والمجتمع الديمقراطي.
وهذا نصها:
“لنستعد الاشتراكية من خلال بناء السلام والمجتمع الديمقراطي”
أيها المفكرون المحترمون، والرفاق الأعزاء، والممثلون الأحباء، وكل من يؤمن بأنه لا يزال بالإمكان وجود الاشتراكية؛ في ظل ظروف العزلة في جزيرة إمرالي التي أكملت عامها الـ 25، وفي مرحلة بدأت فيها المفاوضات مع الدولة مجدداً على أساس القضية الكوردية في تركيا للبحث عن السلام والمجتمع الديمقراطي؛ في ظل هذه الأجواء أوجه ندائي إليكم. إن الحديث معكم اليوم هنا في المؤتمر الدولي للسلام والمجتمع الديمقراطي من أجل طريق إعادة بناء الاشتراكية، أمر ثمين وذو مغزى.
نحن ككورد، وعبر نضال حزب العمال الكوردستاني (PKK) المستمر منذ 52 عاماً، قد أنهينا حرب البقاء والشرف، ودخلنا الآن مرحلة يُعاد فيها بناء الجمهورية الديمقراطية والمجتمع الديمقراطي.
لقد أتم حزب العمال الكوردستاني واجبه التاريخي بضمان الوجود القومي للشعب الكوردي، وكشف في الوقت ذاته عن أزمة اشتراكية الدولة – القومية. ظهرت اشتراكية القرن العشرين كحملة ثورية سلبية، لكنها لم تستطع وضع بديل جديد مكانها. في تسعينيات القرن الماضي، وفي مرحلة كان الأغلبية يهربون فيها من الاشتراكية، كرست كل حياتي لإعادة البناء تلك تحت شعار “الإصرار على الاشتراكية هو إصرار على الإنسانية”. هذا النضال الذي خيض بضريبة كبيرة، أصبح اليوم إرثاً مُخَمَّراً بالنقد النظري والعملي. إن التبني الصحيح لهذا الإرث يتطلب إخراج الاشتراكية من ذكرى وتحويلها إلى قوة اجتماعية حية في قلب الشعب.
يجب النظر إلى التقليد الاشتراكي في التاريخ كإرث لبناء السلام والمجتمع الديمقراطي، والسبيل إلى ذلك هو تنفيذ المهام الدولية نظرياً وعملياً. ورغم أن الاشتراكيين الطوباوين (الخياليين) والماركسيين قد انتقدوا نظام الهيمنة الرأسمالية بشكل واسع منذ القرن التاسع عشر، إلا أنهم لم يتمكنوا من تطوير خط ناجح آخر. لم تعد الرأسمالية اليوم أزمة فحسب، بل وصلت إلى مستوى المرض الذي يهدد الجنس البشري. إن احتكار العنف في شكل الدولة – القومية هو العامل الحاسم في هذا الانهيار. وكما لا يمكن تفسير الرأسمالية بالمبررات الاقتصادية فقط، كذلك لا يمكن تفسير فشل التيار الاشتراكي عبر ضغوط الرأسمالية فحسب، بل إن الأخطاء التاريخية والراهنة حاسمة أيضاً في هذا التراجع.
يجب فهم انتقاداتي للماركسية بشكل صحيح وسليم. أنا لا أتهم ماركس؛ ففي عصره لم يكن التاريخ قد اتضح كما هو اليوم، ولم تكن هناك أزمة بيئية (إيكولوجية)، وكانت الرأسمالية في مرحلة الصعود. ورغم كل ذلك، ماركس هو أيديولوجي ذو ثقة عالية بالنفس وقادر على مساءلة أفكاره باستمرار. إنه يرى حرية المرأة، لكن لأنه قرأها بشكل سطحي ولم يدرك عمقها، اعتقد ماركس أنه إذا تم تجاوز الاستغلال الاقتصادي، فإن قضية المرأة سيتم تجاوزها تلقائياً. إن محاولة تحليل التاريخ الاجتماعي من خلال الطبقية فقط، والعجز عن التحليل الكامل للدولة والدولة القومية، أدى إلى نتائج وخيمة. مع ذكر كل هذه الانتقادات، أود أن أضيف أنني أكن احتراماً كبيراً لجهد ماركس، ولا أشك في نواياه، وأرى الماركسية منفصلة عن ماركس. عندما ننتقد الماركسية والاشتراكية المشيدة (الواقعية) في بعض القضايا الأساسية، فإن ما نشعر به كاشتراكيين هو النقد الذاتي.
على القوى المناهضة للنظام إعادة مناقشة المادية التاريخية بما يتناسب مع حقيقة المجتمع البشري. من المهم معرفة أن الرأسمالية لم “تهبط من السماء” في القرن السادس عشر، بل تعود جذورها إلى تطور الحضارة منذ 10-12 ألف سنة في ميزوبوتاميا (بلاد مابين النهرين). وتوضح مراكز مثل غوبكلي تبه (تل خراب رشك) وكاراهان تبه (تل كجل) هذه البداية التاريخية. ولهذا أرى أن تعريف نظام الحضارة الحالي بنظام القاتل الطبقي الاجتماعي هو الأصح. تظهر الاكتشافات الأثرية والأنثروبولوجية أن الذكور الصيادين قمعوا النساء واستعبدوهن بتقنيات القتل التي طوروها. هذا هو الشرخ الأكثر تجذراً في تاريخ البشرية. وهو في الوقت نفسه ثورة مضادة كبرى حددت جميع التطورات اللاحقة للحضارة.
إن تحليل الرأسمالية انطلاقاً من النظرة التاريخية للماضي يفتح آفاقاً واسعة. لا يكتفي هذا النظام بإشعال التناقضات داخل المجتمع فحسب، بل إنه بإنهاء وجود الطبقة البشرية من خلال تطوير أنظمة الأسلحة الكيميائية والنووية القادرة على تدمير الكوكب بأسره، ومن خلال تلويث المناخ وتدمير الطبيعة بالكامل لنهب الثروات الباطنية والسطحية. والالتزام بهذه الحقيقة وتقديم تحليل جديد للرأسمالية للإنسانية يقع ضمن المهام الدولية الأساسية.
يجب النظر إلى تاريخ المضطهدين بمنظور الكومونة (المشاعية) ككيان للدفاع الذاتي قبل النظر إليه طبقياً. ولهذا يجب اعتبار القبائل البدائية بدايةً للكومونة، وهذا يتطلب نظرة تاريخية تمتد لتصل إلى الطبقة التي تسمى اليوم البروليتاريا أو عموم الكادحين والمضطهدين.
بناءً على ذلك نقول: إن التاريخ لا يتكون من الصراع الطبقي فقط. ورغم أنه يتضمن ذلك، إلا أنه من الأصح قراءة التاريخ كعملية علاقة وتصادم بين التطور الكومينالي (المجتمعي) – الذي يعود تاريخه إلى ما يقرب من 30 ألف سنة – وبين التطور المناهض للكومينالية.
أؤمن بأنه سيجري في مؤتمركم نقاش مهم استناداً إلى التحليلات النظرية التي أطرحها، وسيسهم ذلك في فهم جديد للبرنامج السياسي والتنظيمي. هذه المرحلة هي الأسلوب الرئيسي للمادية الديالكتيكية، لكن يجب تجاوز بعض المبالغات في الديالكتيك الكلاسيكي. نحن مضطرون لرؤية التناقضات لا كقطبين يفني أحدهما الآخر، بل كظواهر اجتماعية تكمل بعضها البعض. لأنه لا دولة بدون كومونة، ولا بروليتاريا بدون برجوازية. إذن يجب تشخيص التناقضات بنظرة تاريخية تحويلية لا بمنطق الإفناء.
تظهر التطورات العلمية أيضاً أن المنهج الديالكتيكي لا يزال أداة فعالة في التحليلات الاجتماعية ما لم يتم التعامل معه كـ “مطلق”. في هذا الإطار، من الضروري تحديث ديالكتيك (الكومونة – الدولة) و(الطبقة – الدولة). إن فشل الاشتراكية المشيدة (الواقعية) في القرن العشرين كان بسبب عدم القراءة الصحيحة لهذا الديالكتيك التاريخي: الاشتراكية – الدولة حين سيطرت على الدولة، انهزمت في النهاية أمام الدولة. كما أن حق تقرير المصير للشعوب، بربطه بالدولة القومية، علق داخل حدود السياسة البرجوازية. ومفهوم “الدولة القومية للبروليتاريا” لم يتمخض عن أي نتيجة سوى إعادة إنتاج العقلية الدولتية. وبقراءة صحيحة لهذه الحقيقة، عبّرتُ عن الآتي: اشتراكية الدولة القومية تقود إلى الفشل، واشتراكية المجتمع الديمقراطي تقود إلى النصر. اليوم هو أوان الخطو نحو التحرر الديمقراطي على أساس اشتراكية المجتمع الديمقراطي. في هذا الطريق، وبإيماننا بالجمهورية الديمقراطية بدلاً من الدولة، وبمفهوم الأمة الديمقراطية وبمعادلة المجتمع الديمقراطي، وحرية المرأة، والإيكولوجيا، سننجح في إعادة البناء ونقطع الطريق.
لقد أوصل هذا الوعي حركتنا إلى التجديد الأيديولوجي والسياسي، وأسلوب التنظيم والجماهيرية. كما أوصلها إلى برنامج اشتراكي قادر على الاستجابة لمتطلبات العصر. إن علاقة الاشتراكية الديمقراطية بالدولة تتشكل من جديد خلال عملية الحل والسلام. أعرّف علاقتي بالدولة كعلاقة “دمقرطة”. إن مفهوم الجمهورية الديمقراطية يتطلب ألا تكون الدولة قوة إلهية فوق المجتمع، بل كياناً يعمل مع المجتمع في إطار عقد ديمقراطي. عبر استراتيجية السياسة الديمقراطية، يمكن إحداث تغيير وتحول في الدولة وإعادة بناء المجتمع على أساس ديمقراطي.
إن تدعيم هذه الاستراتيجية بالقانون يخلق أساساً دائماً للسلام. القانون كآلية تخلق التوازن وتضمن العلاقة الديمقراطية بين الدولة والمجتمع، هو أداة للحل تمنع العنف. وفي الوقت نفسه، يتولى دور مأسسة تأسيس الجمهورية الديمقراطية، والشرعية، وإعادة البناء المنتظم للمجتمع.
لذلك، فإن إحدى الحقائق التي طرحتها كاستراتيجية نضال رئيسية كانت التكامل الديمقراطي ومفهوم القانون في هذا الصدد. إن قانون التكامل الديمقراطي، الذي يُعاد فيه صياغة القوانين وفق المعايير الفردية والعالمية والحقوق الجماعية لصالح المجتمع، يجب أن يستند إلى ثلاثة مبادئ رئيسية وهي: قانون المواطن الحر، وقانون السلام والمجتمع الديمقراطي، وقوانين الحرية.
إن قانون التكامل الديمقراطي يحول الدولة في الوقت ذاته إلى دولة معايير، ويمأسس الوجود الذي حققه المجتمع؛ وهذا يعني تحقيق الحرية أيضاً. إن العملية التي بدأتها بـ “نداء السلام والمجتمع الديمقراطي” هي عملية حوار.
في منطقة مثل الشرق الأوسط المليئة بالتعقيدات البنيوية والدينية والمذهبية، هناك الكثير مما يمكن تحقيقه عبر الحوار والتفاوض الديمقراطي. حتى أنني أرى من المناسب أن تنظم اشتراكية ذات مغزى نفسها كنظام بناء إيجابي ووجودي بدلاً من المفهوم الثوري المليء بالعنف، وأن يتم ذلك عبر الحوار الديمقراطي. من الصعب التصديق بإمكانية بناء الاشتراكية دون الاستناد إلى حوار ديمقراطي واسع وعميق، وإن بُنيت فمن الصعب أن تستمر. كان لينين يقول: “لا يمكن بناء الاشتراكية بدون ديمقراطية واسعة ومتطورة”.
بهذا الفكر والإيمان، أتمنى مرة أخرى النجاح لاجتماعكم، وأقدم لكم سلامي ومحبتي الرفاقية المستمرة .
26-05-2025
عبد الله أوجلان
جزيرة إمرالي