عباس عبد الرزاق
لم يعد حقل غرب القرنة–2 مجرد مشروع نفطي ضخم في جنوب العراق، بل تحوّل إلى أحد أكثر ملفات الطاقة حساسية في المشهد الجيوسياسي الإقليمي والدولي. فمع تصاعد العقوبات الأميركية على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، وجد العراق نفسه أمام معادلة معقّدة: كيف يحافظ على استقرار إنتاجه النفطي، من دون أن يتحول إلى ساحة صراع مفتوح بين القوى الكبرى؟
من الاقتصاد إلى الجغرافيا السياسية
يقع حقل غرب القرنة–2 على بعد نحو 65 كيلومتراً شمال غربي البصرة، ويُعد من أكبر الحقول النفطية في العالم، بإنتاج يومي يقارب 480 ألف برميل، أي ما يعادل نحو 9% من إجمالي إنتاج العراق. هذا الوزن الاستراتيجي جعل الحقل هدفاً لتجاذبات تتجاوز حسابات الربح والخسارة، ليصبح جزءاً من صراع النفوذ الدولي على الطاقة.
إعلان شركة لوك أويل الروسية حالة “القوة القاهرة” في تشرين الثاني الماضي، على خلفية العقوبات الأميركية، شكّل نقطة تحوّل مفصلية، إذ كشف عن صعوبة استمرار الشراكات النفطية التقليدية في ظل بيئة دولية مسيّسة ومعقّدة.
حسابات بغداد:البراغماتية كخيار اضطراري
تتعامل الحكومة العراقية مع الملف من زاوية عملية بالدرجة الأولى. فاستمرار تشغيل حقل يمثل قرابة عُشر الإنتاج الوطني تحت إدارة شركة خاضعة لعقوبات يحمل مخاطر مالية وتقنية لا يمكن تجاهلها، من صعوبة التحويلات المصرفية إلى تعطل وصول التكنولوجيا والخدمات المتخصصة.
من هنا، يمكن قراءة دعوة بغداد شركات أميركية كبرى للتفاوض بشأن الحقل بوصفها خطوة وقائية تهدف إلى حماية الاستقرار النفطي، أكثر من كونها إعلان اصطفاف سياسي صريح.
الشركات الأميركية:نفوذ ناعم عبر الطاقة
في المقابل، تمثل عودة شركات أميركية مثل شيفرون وإكسون موبيل إلى واجهة المشهد النفطي العراقي جزءاً من استراتيجية أوسع لواشنطن، تقوم على تعزيز النفوذ الاقتصادي بديلاً عن الانخراط العسكري المباشر.
أي استثمار أميركي كبير في قطاع النفط العراقي لا يقتصر على العوائد المالية، بل يمنح الولايات المتحدة نفوذاً طويل الأمد في أحد أهم مفاصل الاقتصاد العراقي، ويفتح الباب أمام حضور سياسي واقتصادي أوسع.
الخسارة الروسية:تراجع أم إعادة تموضع؟
بالنسبة لروسيا، فإن احتمال خسارة لوك أويل لحقل غرب القرنة–2 يُعد ضربة استراتيجية، إذ يُمثل الحقل أكبر أصول الشركة خارج الأراضي الروسية. غير أن هذا التراجع لا يعني خروجاً كاملاً من العراق أو المنطقة، بقدر ما يعكس إعادة تموضع قسرية فرضتها العقوبات الدولية وتضييق المجال أمام الشركات الروسية في الأسواق العالمية.
خيارات العراق بين العقوبات وتوازن النفوذ
يقف العراق اليوم أمام ثلاثة مسارات رئيسية في إدارة ملف غرب القرنة–2، لكل منها كلفه ومكاسبه:
أولاً: ترجيح الخيار الأميركي
قد تميل بغداد إلى منح إدارة الحقل لشركة أميركية كبرى، بما يضمن استقرار الإنتاج وتحييد مخاطر العقوبات الثانوية. هذا الخيار يعزز ثقة الأسواق ويؤمّن تدفق الاستثمارات، لكنه في المقابل يكرّس حضوراً أميركياً أعمق في قطاع سيادي، ويقلّص هامش التوازن مع موسكو.
ثانياً: الإبقاء على الشريك الروسي
يفترض هذا المسار نجاح لوك أويل في التكيّف مع بيئة العقوبات، ما يسمح باستمرار الشراكة القائمة. يوفّر هذا الخيار قدراً من التوازن السياسي، لكنه يبقى محفوفاً بعدم اليقين، في ظل احتمال تشديد العقوبات أو اتساع نطاقها.
ثالثاً: الإدارة الانتقالية المختلطة

