عباس عبدالرزاق
عاد الملف السوري ليطفو على سطح التباينات الأمريكية–الإسرائيلية بعد سنوات من التنسيق شبه الكامل، في لحظة إقليمية شديدة الحساسية. فالتصعيد الإسرائيلي الأخير في سوريا، وما رافقه من رسائل أمريكية مباشرة إلى القيادة الإسرائيلية، كشف عن فجوة متنامية في مقاربة الطرفين لإدارة هذه الساحة المعقدة. صحيح أن الحديث عن قطيعة بين واشنطن وتل أبيب يبقى مبالغًا فيه، إلا أن ما يجري يعكس خلافًا حقيقيًا حول التوقيت، وحدود استخدام القوة، ومعنى الاستقرار في سوريا.
منذ ديسمبر الماضي، كثّفت إسرائيل عملياتها العسكرية داخل الأراضي السورية بوتيرة غير مسبوقة، متجاوزة منطق الضربات الجوية المحدودة إلى خطوات ميدانية أكثر عمقًا. توسّع في المنطقة العازلة المحاذية للجولان المحتل، إنشاء نقاط تفتيش ومنشآت عسكرية، وإقامة مهابط للطائرات في مواقع استراتيجية مثل جبل الشيخ، فضلًا عن تكثيف الطلعات الاستطلاعية وصولًا إلى محيط دمشق. هذا السلوك لم يعد يُقرأ أمريكيًا بوصفه إجراءات دفاعية ظرفية، بل كسياسة فرض وقائع قد تتحول إلى دائمة.
الرسائل الأمريكية التي نُقلت إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لم تكن بروتوكولية، بل حملت مضمونًا سياسيًا واضحًا: واشنطن تدعم استقرار سوريا، وترفض أي تحركات من شأنها زعزعة هذا الاستقرار أو تقويض الجهود الرامية إلى بلورة تفاهمات أمنية، سواء كانت معلنة أو غير معلنة. الأخطر من وجهة النظر الأمريكية أن استمرار الضربات الإسرائيلية لا يضعف خصوم إسرائيل فحسب، بل يضعف أيضًا قدرة واشنطن على لعب دور الضابط والوسيط في آن واحد.
لكن هذا الخلاف لا يتعلق بالأهداف النهائية. فالولايات المتحدة لا تشكك في حق إسرائيل في الدفاع عن أمنها، ولا تسعى إلى كبحها لصالح خصومها. إنما يتمحور التباين حول سؤال مركزي: من يملك حق إدارة التوقيت؟ واشنطن، المنخرطة في إدارة أزمات دولية كبرى، ترى أن فتح جبهة جديدة أو توسيع نطاق الصراع في سوريا يحمل مخاطر غير محسوبة. في المقابل، تنظر إسرائيل إلى اللحظة الراهنة بوصفها فرصة استراتيجية، في ظل هشاشة الدولة السورية وانشغال القوى الدولية، لإعادة تشكيل البيئة الأمنية بما يخدم مصالحها بعيدة المدى.
هذا التناقض في المقاربة يعكس اختلافًا أعمق في فهم الاستقرار. فبالنسبة للولايات المتحدة، الاستقرار يعني تجميد الصراع، وضبط السلوكيات، ومنع الانزلاق إلى مواجهات أوسع. أما بالنسبة لإسرائيل، فالاستقرار يتحقق عبر الردع الفعلي وفرض معادلات جديدة على الأرض، حتى وإن أدى ذلك إلى توتر مرحلي مع الحليف الأمريكي.
المعضلة الأمريكية هنا تكمن في كيفية ضبط سلوك إسرائيل دون تحويل هذا الضبط إلى أزمة سياسية. فالضغط العلني قد يُستثمر داخليًا في إسرائيل ويُضعف الحكومة أمام جمهورها، بينما التساهل المفرط قد يشجع تل أبيب على المضي قدمًا في سياسة فرض الأمر الواقع، ما يحرج واشنطن أمام شركائها الإقليميين ويقوض مصداقيتها كوسيط.
في المقابل، تدرك إسرائيل أن تجاوز الخطوط الأمريكية يحمل مخاطر حقيقية، لكنها تراهن على أن واشنطن، في نهاية المطاف، لن تذهب بعيدًا في ممارسة الضغط على حليفها الأقرب. هذا الرهان يفسر سلوكًا إسرائيليًا يقوم على اختبار الحدود، لا على كسرها بشكل صريح.
وسط هذا التجاذب، تقف سوريا في موقع المتلقي للضغوط، دون أن تكون قادرة على التأثير المباشر في مسار الخلاف. فدمشق تواجه تصعيدًا عسكريًا يهدد سيادتها ويستنزف قدراتها، وفي الوقت ذاته تُطالَب بالانخراط في مسارات تفاوضية لا تتوفر لها حتى الآن شروط متكافئة. هذا الوضع يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى المشهد، ويجعل أي حديث عن تسوية سريعة أقرب إلى التمني منه إلى الواقعية.
ما يجعل هذا التباين بالغ الأهمية أنه لا يتعلق بسوريا وحدها، بل بما تمثله في النظام الإقليمي الأوسع. فالملف السوري بات ساحة اختبار لقدرة الولايات المتحدة على ضبط حلفائها، ولحدود القوة الإسرائيلية في فرض وقائع دون غطاء دولي كامل. وفي حال فشلت واشنطن في إعادة ضبط إيقاع هذا الملف، فإن تداعيات ذلك قد تتجاوز الحدود السورية لتطال قواعد إدارة الصراعات في المنطقة بأسرها.
في المحصلة، لا يشير الخلاف الأمريكي–الإسرائيلي حول سوريا إلى تصدع في التحالف، بقدر ما يكشف عن مرحلة انتقالية في إدارة هذا التحالف. مرحلة لم تعد فيها القوة العسكرية وحدها كافية لفرض الاستقرار، ولم تعد فيها التحالفات التقليدية بمنأى عن الاختبار