الكاتب.. حسن الجنابي
الأهوار نظام إيكولوجي هش يعتمد أساساً على وفرة المياه. وبما ان المياه التي تكونت إثرها الأهوار العراقية هي مياه قادمة من أماكن بعيدة جغرافياً بآلاف الكيلومترات، وليست متكونة محلياًّ نتيجة أمطار كثيفة وشبه دائمة كما هو الحال في المناطق الإستوائية مثلاً، فهذا جعلها أكثر المناطق الرطبة هشاشةً في العالم ومن السهولة إفناؤها. يعود السبب في ذلك الى امكانية السيطرة على المياه الجارية والتحكم بها وخزنها وقطعها او تحويل مجراها وما شاكل ذلك من أعمال يمكن تنفيذها على منابع او مجاري الأنهار المغذية لها.
ولذلك لم تكن أهوار العراق في خطر عبر التاريخ الذي سبق سبعينيات القرن الماضي، لأن المياه كانت تجري اليها وباتجاه مصبها في ثغر الخليج دون عوائق، أي دون سدود ومنشآت كبرى. وكانت المياه بحكم الجغرافية والتضاريس تتجمع على مساحات هائلة شمال وشرق وجنوب ملتقى النهرين دجلة والفرات في المنطقة التي سميت بالأهوار في جنوب العراق، لتمنح الحياة هناك شكلها وطعمها وفرادتها وسر ديمومتها منذ الأزمنة القديمة الى أن جففت بقرارات سياسية وإجرائية متعمدة.
تنسحب المياه العذبة من الأهوار ببطء باتجاه الخليج عبر شط العرب بسبب تناوب ظاهرتي المد والجَزْر، وهي الظاهرة التي جعلت من الشط ومن محيطه الجغرافي المحاذي أعذب وأخصب مناطق العراق. فالأراضي الخصبة على ضفتي الشط كانت تسقى يومياً بصورة تلقائية من خلال مئات القنوات والسواقي مع حالة المد وارتفاع المناسيب، ثم تنسحب المياه منها في حالات الجَزْر فيبقى مقطع التربة خصباً ورطباً طيلة العام. وظاهرة المد والجزر ظاهرة أزلية توفر طاقة نظيفة هائلة وطبيعية، ومن الخطأ محاولة إعاقتها بمنشآت يروّج لها بعض من لا يقدّر قيمتها في زمن الفوضى.
في النصف الثاني من القرن العشرين، وبالخصوص منذ أواسط السبعينات بدأت برامج السيطرة المائية عن طريق السدود الكبيرة في دول حوضي دجلة والفرات، أي في العراق ودول المنابع، وبلغت اليوم السعات الخزنية للسدود المقامة على الحوضين أكثر من الإيرادات السنوية للنهرين والروافد بعدة مرات. فمن الناحية العملية فإن المياه التي كانت تستقر في الأهوار العراقية في مواسم الربيع من كل عام أصبحت تخزن في السدود في الأعالي، وهذا تسبب في زيادة مخاطر الهشاشة التي تواجهها الأهوار العراقية منذ ذلك الحين، ووضَعَها عملياً في قائمة الخطر، وأخضعَها لمشيئة المشغّلين في دول الجوار وفي العراق كذلك.
هناك مخاطر اخرى على الأهوار، عدا عن السيطرة على مجاري الأنهار والروافد في المنابع، وباعتقادي هي الأخطر، وتتمثل في التعسف والجهل وإنعدام المسؤولية لدى بعض المعنيين الذين أتيحت لهم فرصة الحكم او ترؤس القطاع المائي على المستوى الوطني. ففي العراق مثلاً قررت الحكومة في التسعينات تجفيف الأهوار لأسباب سياسية، ومن وجهة نظرها أمنية. فقد كانت تعتقد بأنها قادرة على القضاء على المعارضة السياسية وإدامة قبضة السلطة والسيطرة عن طريق إفناء البيئة الساندة للحياة خارج سلطة القمع. فأصبحت سياسة التجفيف سياسة رسمية للحكومة حتى اسقاطها في عام 2003، ولا يوجد في قراراتها التجفيفية أي علاقة بالتغيرات المناخية ولا بدول الجوار، بل كان التجفيف قراراً صدّامياً بسبب سياسات ومواقف اتخذتها الحكومة العراقية حينها، بهدف بسط السيطرة على مناطق عرفت تاريخياً بعدم خضوعها للسلطة المركزية، وكذلك لتهيئة مسرح الحرب مع إيران، إذ جرت معارك طاحنة على الحدود الجنوبية بين البلدين وهي الأراضي التي تغمرها الأهوار.
إستمرت سياسة التجفيف حوالى 13 عاماً حتى اسقاط نظام الحكم في عام 2003. وكانت السلطة قد سخّرت لإنجازها جهد الدولة من آليات مدنية وعسكرية وبشرية أثمرت عن تجفيف 90% من مساحات الأهوار تاريخياً ولم يتبق منها سوى أجزاء من هور الحويزة المشترك مع إيران.
بعد العام 2003 تغيرت المصائر فاتبعت إيران سياسة تجفيف هور الحويزة في حين أن سياسة إنعاش الأهوار أصبحت سياسة حكومية رسمية في العراق، وقد استعيدت إثر ذلك نسبة معقولة من المساحات التي جففت في السابق. استمر الوضع كذلك حتى وقت قريب برغم الضغوطات الناشئة عن سيطرة دول الجوار على المنابع، إذ جففت الأهوار خلال السنتين 2021-2022 في ظل حكومة مصطفى الكاظمي.
من سوء الحظ فإن الوزير المؤتمن على الأهوار والمسؤول عن استدامتها خلال العامين الماضيين كان من ذوي الثقافة المحدودة، ولم يدرك قيمتها الاقتصادية او الثقافية او التاريخية او الدولية او الانسانية، بل انه صرح في لقاء تلفزيوني بأن الأهوار مجرد منخفض لخزن المياه في اوقات الفيضان. بهذا المنحى ولتأكيد موقفه المسبق فهو لم يقم، حسب علمي، بزيارة الأهوار لا قبل ولا أثناء توليه منصبه الوزاري، ويكون قد أقدم على خرق التزامات العراق امام المجتمع وأضرّ بسمعة العراق الدولية، وفشل في اداء الأمانة. وهو قد سلم الوزارة مؤخراً لخلفه بدون أهوار وبدون خزين مائي، ولكن مع الكثير من الكلام عن دوره في تحطيم هور الحويزة بالذات، واتهامات من السكان المحليين عليه ان يبرء نفسه ومعاونيه منها خاصة في تقليل او منع الحصة المائية المقررة للأهوار.
لا شك فإن ما شهدته الاهوار كنتيجة مباشرة لإجرءات الوزارة لم يعد معها الإتكاء على “التغير المناخي” ولا القاء اللوم على الجوار كافياً. وفي ظل الأوضاع السائدة في العراق، حيث المجتمع مشغول بتدبير الحدود الدنيا للمعيشة الآمنة، والسياسيون مستنفرون للحصول على مواضع قدم في هرم السلطة، والمصارف والعقارات، وبيع العملة والأستثمارات الباحثة عن فضاءات المدن لإنشاء مولات تجارية ومطاعم ومقاهي بإسماء غريبة تحاكي نزعات الأستهلاك التي تستهدف المال السائب في السوق، لا أحد في هذه الفوضى يفكر بمصير الأهوار او يسأل عنها. لكن هذا الموقف غير الأخلاقي والخاطئ سياسياً وإجتماعياً وإنسانياً، والهادف للقضاء على آثار الحضارة السومرية لن يجلب المجد لأصحابه بل يلحق بهم العار واللعنة الأبدية.
نقلا عن صحيفة المدى