الكاتب .. عباس العلي
النظم السياسية في العالم والتي تتبناها الأفكار والتنظيمات الحزبية في كل دول العالم لا نجد هناك عنوان سياسي أو حزبي تحت مسمى المدنية، ما عدى الظاهرة العراقية المتفردة ربما أن مفردة المدنية كتوصيف سياسي هي الغالبة في الخطاب الحزبي والجماهيري، وكأن المدنية فتح جديد في عالم السياسة أدركه العراقيون من دون شعوب العالم، والحقيقة أن مفردات المدنية والعلمانية هي توصيفات لم تعد تستعمل في عالم اليوم كونها تأت نتاج طبيعي لمكونات الفكر الدستوري والنظرية السياسية التي تحكم البلدان والمجتمعات بعد إنهيار الدول والأنظمة التي تعتمد فكرتي الدولة الدينية المغلقة أو الدولية ذات النظام العسكري المغلق، ولم يبقى من هاتين الأنظمة إلا الشواذ التي لا تمثل أتجاها مهما في عالم السياسات اليوم.
إن أولى مرتكزات المدنية التي يشير لها المفهوم المتداول هو وجود دستور ينص على حقوق مدنية وطريقة ممارسة السلطة وأن المشروعية الدستورية بيد الشعب وعبر ممارسة لا تتصل بمحدد ديني أو عسكري، فعند توصيف نظام سياسي على أنه نظام ديني هو أعتماده الكامل والمباشر والأساسي على إلزامية الفكرة الدينية ومحوريتها في بناء شكل النظام وألياته وترتيب الحقوق والواجبات، أي أن الدين والعقيدة الدينية هي مصدر المشروعية ومبعثها الأساسي، هنا تتحول السلطة السياسية إلى تابع للمعبد وتحت توجيه الكهنة ورجال الدين دون أن يكون للشعب دورا في رسم رؤيته الاجتماعية والسياسية والفكرية، وتتحول الحياة السياسية إلى ظاهرة توسع ساحة المعبد لتشمل الوطن كله وتمتد سطوة رجال الدين حتى على غير المتدينين او من الديانات الأخرى.
أما النموذج الأخر مما لا ينتمي لمفاهيم المدنية فهي دولة الجنرالات العسكرياتية، والتي تحكم بالأوامر العسكرية وربط كل حركة المجامع بمتطلبات الوضع العسكري وإنعكاساته، أما نتيجة لحالة طوارئ تعم البلد فعلا أو أفتراضا أو لأن الحاكم العسكري يرى في نفسه صاحب الحف المطلق في إدارة الدولة دون منافسة، أو حتى دون سماع رأي الشعب وقواه الفاعلة، فالحاكم العسكري هنا تماما يتصرف مثل رجل الدين في الدولة الدينية ويطبق نفس المفاهيم عندما يحول الدولة إلى معسكر مفتوح للشعب ويغلق عليه أسوار الخروج، لذلك كانت الدعوات التي تنطلق في هذه المجتمعات تريد أن تغير في طريقة التعاطي بين السلطة والشعب وليس أكثر من أن يكون النظام السياسي إنعكاس لإرادة الشعب بدرجة ما، وعزل المؤسسات العاملة فيه عن التحكم والسلطة المطلقة للحاكم دينيا أو عسكريا، هناك أنظمة معدودة جمعت بين الديني والعسكري في آن واحد لتكون دولة عسكرية بغطاء ديني تتناغم وتخادم المؤسستين الدينية والعسكرية في نغمة واحدة، هي تغييب صوت الشعب وحصر القرار بيد فرد ديكتاتور يتزعم منظومة حريصة على الفصل بين السلطة وبين الشعب عبر مشروعية الخوف والقداسة.
إذا الواقع العراقي اليوم وبالرغم من وجود تأثيرات دينية على سلطة القرار والتقرير لكنها ليست من طبيعة النظام القانونية والدستورية، فالدستور العراقي مدني ليس هذا فحسب، ولكن كل الدساتير العراقية السابقة لم تشير إلى دولة دينية أو عسكرية إلا في بعض الفترات القصيرة ونتيجة ظروف معروفة، المجتمع العراقي مجتمع مدني والطبيعية السياسية طبيعة مدنية، لكن الذي جعل المؤسسة الدينية تتحكم بالنظام السياسي من خلال ما يعرف “عمليات تحت الطاولة” هي الأحزاب السياسية التي تتخادم مع المؤسسة الدينية، وتعتمد في وجودها عليها وليس على جمهور حر وممارسة ديمقراطية متأصلة، فغالب الأحزاب مع نهي الدستور العراقي عن تكوين احزاب دينية أو تدعو للمذهبية هي أحزاب غير مدنية ولا تؤمن بالديمقراطية إلا كمرحلة للوصول آو حكم الخلافة أو حكم الإمامة، لكن الفساد المتفشي في كل مفاصل الدولة وأجهزتها هو المسئول المباشر عن تأثير المؤسسة الدينية على القرار السيادي العراقي.
فبدلا من المطالبة بالمدنية عبر أحزاب ترفع شعار المدنية والعلمانية والديمقراطية أن تركز في عملها على محاربة الفساد وإلى سيادة القانون بأعتبارهما الطريق الطبيعي لقيام الدولة المدنية الحقيقية، وبغياب المشروعية الشعبية الدستورية والمواطنة الواحدة القائمة على وحدة ومساواة في الحقوق والواجبات تبقى الدعوة للمدنية مجرد صوت بلا صدى، ولغو لا محل له ولا قيمة حقيقية إن لم يكن أساس الدعوى هو دستورية النظام السياسي وتحقيق سلطة القانون بأعتبارها القيمة العليا في المجتمع، والرافعة الأساسية لتحرير القرار العراقي من سطوة رجال الدين وتحكمهم بالشعب من خلال القداسة المزعومة والتعالي الفردي على مجموع قوى الشعب والدولة.
نقلا عن صحيفة المدى