د. ژینۆعبد الله
کان لخبر إغلاق الخدمة العربية لراديو “بي بي سي”، وقع حزين علی قلوب وأنفس عشّاق أثير الراديو بشكل عام والقسم العربي بهیئة الإذاعة البریطانیة بشکل خاص.
الإذاعة التي ذاع صیتها منذ الوهلة الأولی من إنطلاقها في أرجاء المعمورة وعلی وجه الخصوص في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفریقیا وبالأخص عبر عبارة التعریف الشهیرة “هنا لندن – بي بي سي”. فقد أعلنت صحيفة «الغارديان» قرار هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وقف البث الإذاعي للخدمة العربية، وسط قرار بوقف البث الإذاعي بعشر لغات، من بينها العربية والفارسية والصينية والبنغالية، إلى جانب إلغاء مئات الوظائف عبر الخدمة العالمية.
إن هذا الحدث العالمي الذي أدّی إلی ردود أفعال واسعة النطاق واکتسب اهتماما إعلامیاً بارزاً علی شبکات التواصل الإجتماعي والقنوات الإعلامیة الناطقة باللغة العربیة، رجع بي إلی ذکریات جمیلة في أیام مضت وبالأخص إبان التحاقي بالمرحلة الأولی من الدراسة الأولیة بقسم اللغة العربية في کلیة اللغات بجامعة السلیمانية حیث دَرَّسنا فیها أساتذة کبار مواضیع شتی في مجالات الأدب واللغة والنقد والکتابة وإلی ما هنالك من مواضیع أخری کثیرة.
أود أن أستذکر هنا شخصیة علمیة وقامة لغویة بارزة ألا وهو الأستاذ العزیز الدکتور طه صالح أمين أغا الذي لازلتُ أتذکر توصیته لنا بالاستماع اليومي لهذا الراديو وهو ما قمت به بناءً علی هذه التوصیة التي إن دلت علی شيء فإنما تدل علی رقي وإخلاص وصدق من أوصی بها مع رسالته التعلیمیة وصفاته النبیلة کمدرس ومرشد لنا في آن واحد.
وکأحد الطلاب الآخذین بهذه التوصية النبیلة فقد دأبت علی الاستماع لإذاعة (لندن) حتی أمسیت أحد عشاقها لما فیها من برامج نوعیة فریدة في تلك الفترة ونشرات خبریة تتم متابعتها من قبل الملایین من المستمعین فضلاً عن برامج حوارية وثقافية تتمیز بطریقة إعدادها من قبل عمالقة التحریر الخبري وتقدیم أکثر من رائع بصدی أصوات مذیعي ومذیعات تلك الإذاعة الرائدة نخص منهم بالذکر ماجد سرحان ومحمد صالح الصیت والمذيعة العراقية الكبيرة مديحة رشيد المدفعي التي تعد أول صوت نسائي قرأ نشرات الأخبار بالقسم العربي في ”بي بي سي“ ومحمود المسلمي الذي قرأ قبل أیام الأسطر الأخیرة من رسالة الوداع وغیرهم. و لقد کان لأدائهم الرائع ومحتویات برامجهم الخبریة والسیاسیة والفنیة والریاضیة وغیرها الأثر العمیق في تقوية لغتنا وتوسیع أفاق تفکیرنا وإحاطتنا علماً بما یدور حول العالم الأمر الذي ساعدني بشکل کبیر فيما بعد في تطویرعملي في الإعلام وتقوية کفاءتي اللغوية المرتبطة ارتباطا وثیقاً بلغة الضاد للدراسة الأكاديمیة ومهّد لي الولوج بشكل سريع إلى عالم الصحافة والإعلام حیث قضیت فیها سنوات کثیرة.
ترجع بدایة عملي المهني إلی الفترة التي کنت فیها بالمرحلة الرابعة بالجامعة إذ إنني قدمت بالطلب للعمل في مجال الصحافة حیث اختارني آزاد جندياني مسؤول مكتب إعلام الاتحاد الوطني في وقتها للعمل بإذاعة صوت شعب كردستان (2000-2015) وكانت مقرها بمنطقة “جوارتا” بقضاء شاربازير، وكان في وقتها الصحفي المخضرم “بارزان شيخ عوسمان” مديرا. وبفضل الله ثم بمساعدة الصديق العزيز وأستاذي في مجال الصحافة “أ.د. إبرهيم سعيد” دخلتُ مجال العمل في فترة قیاسیة لأنە ساندني كثيرا وعلمني تقنيات العمل الإذاعي فضلا عن خبرتي المکتسبة من الإستماع المستمر لنشرات الأخبار والمواد الأخری التي تبث عبر أثیر الخدمة العربیة لبي بي سي.
یجدر ذکره بأن هذه المتابعة المستمرة والتغذیة اللغویة والإذاعیة المستمدة من البي بي سي العربي کانت لها آثار إیجابیة تجسدت في إمدادي بإمکانیة إعداد وتقدیم برنامج أسبوعي للإذاعة والعمل کمراسل عقب التخرج ثم کمترجم ومحرر لسنوات تلت حتى أتیحت لي فرصة العمل کمراسل لقسمي اللغتین الكوردية والعربية بإذاعة صوت روسيا الدولية (2007-2013 ) و ذلك بمساندة ومساعدة الأخ العزيز السفير شورش خاليد.
ومن خلال تجربتي الشخصیة التي تمتد لأکثر من عقدین من الزمان أیقنت بأن التجربة واکتساب الخبرة من خلال الاستماع والقراءة المتواصلة من الرکائز الأساسیة للنجاح والتوفیق في عالم الصحافة المسموعة والمقروءة و المكتوبة. وهنا أرجع إلی ذکر تلك الإذاعة العریقة التي علمتني، كما هو الحال مع الأجيال السابقة، ثقافة عامة خاصة فیما یخص الدول المنغلقة والحيادية في الأخبار وعشق لغة الضاد والاستمتاع بسماعها والتنوع بالمواد الإذاعية والوعي بما یدور خلف الأبواب المؤصدة في عواصم صنع القرار في العالم.
وفي خضم کل هذه الذکریات الجمیلة المرصعة بالحنین إلی ماض جمیل، هناك أمر یتعجب منه المرء ویستغرب وهو أن إنهاء خدمة بي بي سي العربیة العريقة أتی في وقت یتم فیه صرف أموال طائلة لفضائيات تافهة لا جدوى لها وهو ما عبرت عنها آراء الكثير من المتابعين الذین غلبت مشاعر الصدمة على تفاعلاتهم مع رواد مواقع التواصل والعاملين بالخدمة العربية للإذاعة، لا سيما مع ارتباط تلك الإذاعة اللندنية بآذان المستمعين الذين ينطقون اللغة العربية منذ 84 عاماً، ما يجعلها رفيقة الأجيال.
*مقابلة مع الشاعر أدونيس عندما كنت مراسلا لإذاعة روسيا الدولية.