ميسون الدملوجي
مذكرات المناضلة والسياسية والناشطة نرمين خان ( على ضوء القمر نسجنا احلام الوطن) اقرب ما تكون نصاً روائياً ببنائه وشخوصه.. او فيلماً سينمائياً تتخذ فيه البطلة موقع الكاميرامان.. فهي تراقب بهدوء ابطال الرواية، وهم ابطال حياتها، وتنتبه الى تفاصيل كل منهم.. وتسرح في يومياتهم وطعامهم وملبسهم ومزاجهم واغانيهم ودبكاتهم.. وتفخر بمواقفهم البطولية والشجاعة وترويها للقارئ بالقدر الذي تستحقه.. ولا تتدخل في سير احداث الرواية الا اذا اقتضت المصلحة.
ما يهمني في المذكرات هو السرد من خلال عين أنثى، فتبدأ الرواية بفتاة صغيرة شعرت بالمسؤولية وهي في الخامسة من عمرها باعتبارها الابنة البكر، وبسبب مرض والدتها. ومنذ ذلك العمر الصغير صارت هي المسؤولة عن جميع من حولها، ومنهم والدها ووالدتها، واجبها هو ان تمنحهم الحب والأمن والثقة بالنفس. ولا تنسى ان تسرد لنا لحظات جحودها وقسوتها، وهي لحظات انسانية مألوفة بين كل البشر، فتدونها بمذكراتها وكأننا شهود امام فريضة الاعتراف الكنسية التي تزيل الآثام والمعاصي، ولا تخشى الكاتبة من المرور على أخطائها وهفواتها فتضحكنا معها.
تمر صاحبة المذكرات بالشخصيات الأهم في حياتها، وفي بدايتهم والدها ووالدتها واخوتها واخواتها واخوالها والناس الأعز الى نفسها، حتى تصل الى دارو عبدالواحد رفيق عمرها، ومعاناتها مع سجنه في أبو غريب، وايامهما في النضال بما تحمله من حلاوة ومرارة، وقصتها مع اخيه الشهيد شهاب، وتدور أحداث القصة حول تضحياتهم جميعاً في البحث عن وطن للكرد، ونتألم معها لسقوط شهداء هم الاقرب الى نفسها والذين صاروا الأقرب الينا ايضاً.. حاملين شعار (عش قليلا عش شجاعاً).
إحدى الشخصيات المهمة هي خالها الشهيد جعفر، وكان معلمها وصديقها وحافظ اسرارها، نمت نرمين في كنفه وتعرفت على الحياة بعينيه وتحت ناظريه، غنّت وضحكت معه وغضبت منه وغضب عليها. وتمر الايام فيلقى القبض عليه ويحكم بالاعدام..!! تجول صاحبة الذكريات الشابة مع خالتها بين زعماء الدولة بحثاً عن تخفيف للحكم، ولكن المحكوم يرفض الوساطة ويمشي بقدميه للموت صادحاً بنشيد الارض.
ومثله الشهيد شهاب الذي كان يحثها على البحث والمعرفة، وانتزعته السلطة الغاشمة مثل الاف المثقفين. ونمر معها في حياة الجبل مع البيشمرگة حيث الافاعي والعقارب من جانب، وجيش صدام من جانب اخر. ولكنها بالرغم من ذلك تستغرق في أمومتها لطفلها هاورى وبالطبيعة وخرير المياه وتراقب خطوات المرحوم مام جلال ذهاباً واياباً فوق سطح طيني وهو يفكر بتحقيق احلام الوطن.
يتساقط الشباب أمام عينيها في معارك متتالية، بعضها ضد السلطة الغاشمة، وفي أحيان كثيرة في حروب عبثية مع أبناء جلدتهم من الكرد، وهي الأكثر إيلاماً لنفسها. وتمر السنوات العقود، وتعود الكاتبة الى سجن أبو غريب وزيرةً لحقوق الإنسان، ذلك السجن الذي نالت منه العذاب في زيارات أحبتها المتقطعة، ووداع بعضهم على حبل المشانق. ولم تنس اصطحاب ابنتها الشابة نارين لتشهد على المكان، وتحمل الإرث من أمها.
يقع الكتاب ب 524 صفحة، وهو من منشورات معهد نارين للبحث والنشر، ترجمه عن الكردية علي شمدين عام 2023. وبالرغم من الأخطاء اللغوية الكثيرة والهفوات، من بينها عدم وجود شروحات للصور الفوتوغرافية الكثيرة، الا ان هذا لا يؤثر على سردية المذكرات، وأتأمل أن تصحح الأخطاء في طبعات قادمة.
شخصياً، ارى ان هذه المذكرات هي فصل أول من رواية بفصلين، وينبغي ان يتبعه فصل اخر عن تقييم المؤلفة ومراجعتها لهذه التجربة الغنية، وما الذي انتهى اليه الامر بعد مرور كل هذه السنوات، فهل ذهبت الدماء الزكية سدىً في البحث عن سراب وأحلام رومانسية؟ هل كان زعماء الاحزاب بحجم المسؤولية التي القيت على عاتقهم؟ هل ان حاضر كردستان بحجم التضحيات التي قدمها جيل نرمين ودارو والاجيال التي سبقته؟ وما هي نظرتها لمستقبل الحركة الكردية وكردستان؟